الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قلت: ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته.فإن قلت: فلم قدّمت العبادة على الاستعانة؟ قلت: لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها. فإن قلت: لم أطلقت الاستعانة؟ قلت: ليتناول كل مستعان فيه، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله: اهْدِنَا بيانا للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: {اهدنا الصراط المستقيم}، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض. وقرأ ابن حبيش: نستعين، بكسر النون.[سورة الفاتحة: آية 6]:{اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} هدى أصله أن يتعدى باللام أو بإلى، كقوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} فعومل معاملة- اختار- في قوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ}.ومعنى طلب الهداية- وهم مهتدون- طلب زيادة الهدى بمنح الإلطاف، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً} {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}. وعن على وأبىّ رضي الله عنهما: اهدنا ثبتنا، وصيغة الأمر والدعاء واحدة، لأنّ كل واحد منهما طلب، وإنما يتفاوتان في الرتبة.وقرأ عبد اللَّه: أرشدنا.{السراط} الجادّة، من سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه، كما سمى: لقما، لأنه يلتقمهم. والصراط من قلب السين صادًا لأجل الطاء، كقوله: مصيطر، في مسيطر، وقد تشم الصاد صوت الزاى، وقرئ بهنّ جميعا، وفصاحهنّ إخلاص الصاد، وهي لغة قريش وهي الثابتة في الإمام، ويجمع سرطا، نحو كتاب وكتب، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل، والمراد طريق الحق وهو ملة الإسلام.[سورة الفاتحة: آية 7]:{صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)} {صراط الذين أنعمت عليهم} بدل من الصراط المستقيم، وهو في حكم تكرير العامل، كأنه قيل: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} اهدنا {صراط الذين أنعمت عليهم}، كما قال: {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لمن آمن منهم. فإن قلت: ما فائدة البدل؟ وهلا قيل اهدنا {صراط الذين أنعمت عليهم}؟ قلت: فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره: صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملا أوّلا، ومفصلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيرًا وإيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع. والذين أنعمت عليهم: هم المؤمنون، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه. وعن ابن عباس: هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا، وقيل هم الأنبياء. وقرأ ابن مسعود: {صراط من أنعمت عليهم} {غير المغضوب عليهم} بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى أنّ المنعم عليهم: هم الذين سلموا من غضب اللَّه والضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب اللَّه والضلال. فإن قلت: كيف صح أن يقع: {غير} صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لا توقيت فيه كقوله:
لرجل من بنى سلول، ويسبني صفة للئيم وإن قرن بأل، لأنه ليس المراد لئيما بعينه بدليل مقام التمدح فأل فيه للعهد الذهني لا الخارجي، ومدخولها في المعنى كالنكرة، فجاز وصفه بالجملة وإن كانت لا يوصف بها إلا النكرة، وهذا يفيد اتصافه بالسب دائما لا حال المرور فقط وهو المراد، وكان الظاهر أن يقول: فأمضى ثم أقول، ولكن أتى بالماضي دلالة على تحقق ذلك منه، وروى: فأعف ثم أقول: أى أكف عنه وعن مكافأته، ويحتمل أنه أراد صررت على صبغه الماضي بالمضارع لحكايه الحال، هذا والظاهر أن الجملة حالية، أى: أمر على اللئيم حال كونه يسبني وأنا أسمع فأعرض عنه وأقول إنه لا يقصدني بذلك السب الذي سمعته منه، وليس المراد وصفه بالسب الدائم، لأنه لا يظهر مع تخصيص السب بوقوعه على ضمير المار، على أنه يمكن جعل الحال لازمة فتفيد الدوام. هو غضبان ممتلئ جلده غضبا على لكن لا أبالى بذلك، فانى وحق ربك غضبه يرضيني، فليدم عليه وليزدد منه، والإهاب: الجلد قبل دبغه بل وقبل سلخه كما هنا.ولأنّ المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في- غير- إذًا الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف، وقرئ بالنصب على الحال وهي قراءة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير. وذو الحال الضمير في عليهم، والعامل أنعمت، وقيل المغضوب عليهم: هم اليهود لقوله عز وجل: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ}. والضالون:هم النصارى لقوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ}. فإن قلت: ما معنى غضب اللَّه؟ قلت: هو إرادة الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده- نعوذ باللَّه من غضبه، ونسأله رضاه ورحمته. فإن قلت: أى فرق بين: {عليهم} الأولى و: {عليهم} الثانية؟ قلت: الأولى محلها النصب على المفعولية، والثانية محلها الرفع على الفاعلية.فإن قلت: لم دخلت لَا في {وَلَا الضَّالِّينَ}؟ قلت: لما في- غير- من معنى النفي، كأنه قيل: لا المغضوب عليهم {ولا الضالين}. وتقول: أنا زيدًا غير ضارب، مع امتناع قولك: أنا زيدًا مثل ضارب لأنه بمنزلة قولك أنا زيدًا لا ضارب. وعن عمر وعلى رضي الله عنهما أنهما قرءا: {وغير الضالين}. وقرأ أيوب السختياني: {ولا الضألين}- بالهمز، كما قرأ عمرو بن عبيد: {و لا جأن} وهذه لغة من جدّ في الهرب من التقاء الساكنين. ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأبة، ودأبة.آمين: صوت سمى به الفعل الذي هو استجب، كما أنّ رويد، وحيهل، وهلم أصوات سميت بها الأفعال التي هي أمهل، وأسرع، وأقبل. وعن ابن عباس: سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن معنى آمين فقال: افعل وفيه لغتان: مدّ ألفه، وقصرها. قال: لقيس بن معاذ الملوح مجنون لبلى العامرية، اشتد وجده بها، فأخذه أبوه إلى الكعبة ليدعو اللَّه عسى أن يشفيه، فأخذ بحلقة بابها وقال ذلك. والدعاء لليل المحبين مجاز عقلى، وهو في الحقيقة لهم، وبين أن رقادهم ليس على المعتاد بقوله: الساقطين على الأيدى، المكيين على الوجوه حيرة وسكرة، ثم دعا بأن يديم اللَّه حبها، ودعا لمن يؤمن على دعائه بأن يقول: آمين، وهو اسم فعل، أى استجب يا اللَّه هذا الدعاء، وهو بالمد، ويجوز قصره.وقال: وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «لقني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب وقال: إنه كالختم على الكتاب»، وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف.وعن الحسن: لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبى حنيفة رحمه اللَّه مثله، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيها. وروى الإخفاء عبد اللَّه بن مغفل وأنس عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وعند الشافعي يجهر بها. وعن وائل بن حجر أنّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا قرأ: {ولا الضالين}، قال آمين ورفع بها صوته. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لأبىّ بن كعب: «ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟» قلت: بلى يا رسول اللَّه. قال: «فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وعن حذيفة بن اليمان أنّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إنّ القوم ليبعث اللَّه عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبّى من صبيانهم في الكتاب: {الحمد لله رب العالمين} فيسمعه اللَّه تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة». اهـ.
|