الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فَتَبَيَّنَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هَدْيَ الْقُرْآنِ فِي الطَّيِّبَاتِ أَيِ الْمُسْتَلَذَّاتِ هُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ الْمُعْتَدِلَةُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا مَعَ الِاعْتِدَالِ وَالْتِزَامِ الْحَلَالِ، كَهَدْيهِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْرِفُ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيُقَصِّرُ بَعْضٌ، وَالِاعْتِدَالُ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي يَقِلُّ سَالِكُهُ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ يَنْكَبُّونَ عَنْهُ فِي التَّمَتُّعِ إِلَى جَانِبِ الْإِفْرَاطِ وَالْإِسْرَافِ، فَيَكُونُونَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ لِمَا يَجْنُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَحْفِرُونَ قُبُورَهُمْ بِأَسْنَانِهِمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لِإِسْرَافِهِمْ فِي الطَّعَامِ يُصَابُونَ بِأَمْرَاضٍ تَكُونُ سَبَبًا لِقِصَرِ آجَالِهِمْ، وَإِسْرَاعِ الْهَرَمِ فِيهِمْ، وَالْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ يَنْحَرِفُونَ عَنْهُ إِلَى جَانِبِ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ، إِمَّا اضْطِرَارًا كَالْمُقَتِّرِينَ الْبَائِسِينَ، وَإِمَّا اخْتِيَارًا كَالزُّهَّادِ الْمُتَقَشِّفِينَ، وَالْتِزَامُ صِرَاطِ الِاعْتِدَالِ الْمُسْتَقِيمِ أَعْسَرُ وَأَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَأَدَلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْعَقْلِ، وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ الْمُسْرِفِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مُتَّبِعُ هَدْيِ الدِّينِ فِي إِسْرَافِهِ، وَقُصَارَى مَا يَعْتَذِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا عُذِلَ وَعِيبَ عَلَيْهِ إِسْرَافُهُ شَرْعًا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ حَدَّ مَا أَبَاحَهُ اللهُ لَهُ، وَإِذَا قَصَدَ الْمُعْتَدِلُ اتِّبَاعَ الشَّرْعِ بِإِقَامَةِ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ جَسَدِهِ وَنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَشَكَرَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ بِاسْتِعْمَالِهَا كَمَا يَنْبَغِي، فَقَلَّمَا يَفْطُنُ النَّاسُ لِذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعُدُّهُ بِهِ كَامِلَ الدِّينِ مُعْتَصِمًا بِالْفَضِيلَةِ، فَهِيَ فَضِيلَةٌ لَا رِيَاءٌ فِيهَا وَلَا سُمْعَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُفْرِطُونَ بِتَعَمُّدِ التَّقَشُّفِ هُمُ الَّذِينَ كَثِيرًا مَا يَغْتَرُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَيَغْتَرُّ النَّاسُ بِهِمْ، فَهُمْ عَلَى انْحِرَافِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الدِّينِ يَدَّعُونَ أَوْ يُدَّعَى فِيهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ.أَعْوَزَ هَؤُلَاءِ النَّصَّ عَلَى دَعْوَى كَوْنِ الْغُلُوِّ فِي التَّقَشُّفِ مِنَ الدِّينِ، فَتَعَلَّقُوا بِبَعْضِ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مِنْ سِيرَةِ فُقَرَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي السُّنَّةِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهَا لِإِجْمَالِهَا وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ إِلَيْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ وَقَائِعُ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا يَفْعَلُهُ؟عَقَدَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَائِهِ كِتَابًا سَمَّاهُ «كِتَابَ كَسْرِ الشَّهْوَتَيْنِ» شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَشَهْوَةِ الْفَرْجِ، وَطَرِيقَتُهُ أَنْ يَبْدَأَ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ فَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ فَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ، وَنَرَاهُ لَمْ يَجِدْ آيَةً يَبْدَأُ بِهَا مَوْضُوعَ «بَيَانِ فَضِيلَةِ الْجُوعِ وَذَمِّ التَّشَبُّعِ» فَبَدَأَهُ بِأَحَادِيثَ أَكْثَرُهَا لَا يَعْرِفُ الْمُحَدِّثُونَ لَهُ أَصْلًا قَطُّ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ فَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا نَذْكُرُهُ غَيْرَ مُسْنَدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ:(1) جَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَإِنَّ الْأَجْرَ فِي ذَلِكَ كَأَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مَنْ جُوعٍ وَعَطَشٍ، (2) لَا يَدْخُلُ مَلَكُوتُ السَّمَاءِ مَنْ مَلَأَ بَطْنَهُ. (3) قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ مَنْ قَلَّ مَطْعَمُهُ وَضَحِكُهُ وَرَضِيَ بِمَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ. (4) سَيِّدُ الْأَعْمَالِ الْجُوعُ، وَذُلُّ النَّفْسِ لِبْسُ الصُّوفِ، (5) الْبَسُوا وَاشْرَبُوا وَكُلُوا فِي أَنْصَافِ الْبُطُونِ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ. (6) الْفِكْرُ نِصْفُ الْعِبَادَةِ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ هِيَ الْعِبَادَةُ، (7) أَفْضَلُكُمْ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُكُمْ جُوعًا وَتَفَكُّرًا، وَأَبْغَضُكُمْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ نَئُومٍ وَشَرُوبٍ، (8) لَا تُمِيتُوا الْقَلْبَ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ الْقَلْبَ كَالزَّرْعِ يَمُوتُ إِذَا كَثُرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ.قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْإِحْيَاءِ: عِنْدَ كُلِّ حَدِيثٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَصْلًا، وَأَقَرَّهُ الْمُرْتَضَى الزُّبَيْدِيُّ شَارِحُ الْإِحْيَاءِ عَلَى ذَلِكَ.وَمِمَّا أَوْرَدَهُ مِنَ الْمَرْوِيَّاتِ فِي كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الطَّوِيلُ فِي وَصْفِ الزُّهَّادِ الَّذِي أَوَّلَهُ عِنْدَهُ: «إِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ طَالَ جُوعُهُ وَعَطَشُهُ وَحُزْنُهُ فِي الدُّنْيَا، الْأَحْفِيَاءُ الْأَتْقِيَاءُ وَمِنْهُ أَكَلُوا الْعَلَقَ، وَلَبِسُوا الْخِرَقَ، شُعْثًا غُبْرًا، يَرَاهُمُ النَّاسُ فَيَظُنُّونَ أَنَّ بِهِمْ دَاءً، وَمَا بِهِمْ دَاءٌ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ خُولِطُوا فَذَهَبَتْ عُقُولُهُمْ وَمَا ذَهَبَتْ عُقُولُهُمْ، وِفِي آخِرِهِ: وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَأْتِيَكَ بِالْمَوْتِ وَبَطْنُكُ جَائِعٌ وَكَبِدُكَ ظَمْآنُ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تُدْرِكُ أَشْرَفَ الْمَنَازِلِ وَتَحِلُّ مَعَ النَّبِيِّينَ» إِلَخْ، فَهَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَفِي إِسْنَادِهِ حَبَّانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبَلَةَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَأَكْثَرُ رِجَالِهِ مَجْهُولُونَ، وَأُسْلُوبُهُ بَعِيدٌ مِنْ أُسْلُوبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْكُتُبِ أَطْوَلُ مِنْهُ فِي الْإِحْيَاءِ، وَفِي الْأَوْصَافِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَمْ يُورَدْ فِي جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا مِنَ الصِّحَاحِ إِلَّا حَدِيثُ «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ «يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ» إِلَخْ، وَلَهُ قِصَّةٌ حَمَلَتِ الطَّحَاوِيَّ وَابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِكَافِرٍ وَاحِدٍ لَا عَامٌّ، وَلِغَيْرِهِمَا فِيهِ بِضْعَةُ أَقْوَالٍ، مِنْهَا أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي هَمِّ الْكَافِرِ بِالتَّمَتُّعِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ الْحِنْطَةِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ مِنْ سِيرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ، فَتَارَةً يَأْكُلُ أَطْيَبَ الطَّعَامِ كَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَالدَّجَاجِ، وَتَارَةً يَأْكُلُ أَخْشَنَهُ كَخُبْزِ الشَّعِيرِ بِالْمِلْحِ أَوْ بِالزَّيْتِ أَوِ الْخَلِّ، وَتَارَةً يَجُوعُ وَتَارَةً يَشْبَعُ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْمُعْسِرِ وَالْمُوسِرِ، وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ يَهُمُّهُ أَمْرُ الطَّعَامِ، إِنَّمَا كَانَ يَعْنِي بِأَمْرِ الشَّرَابِ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ «كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلْوَ الْبَارِدَ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّهُ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا (بِضَمِّ السِّينِ) عَيْنٌ أَوْ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَاءُ الْقُرَاحُ وَالْمَاءُ الْمُحَلَّى بِالْعَسَلِ أَوْ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ. اهـ.
|