الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
اعلم: أن القوم كانوا ينسبون إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما والناس فريقان في أمرهم: فريق يثبت صحة ذلك وفريق يمنعه وينفيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعم أنهم أدعياء من ولد ديصان البوني الذي ينسب إليه النوبة وإن ديصان كان له ابن اسمه: ميمون القداح كان له مذهب في الغلو فولد ميمون: عبد الله وكان عبد الله عالمًا بجميع الشرائع والسنن والمذاهب. وأنه رتب سبع دعوات يندرج الإنسان فيها حتى ينحل عن الأديان كلها ويصير معطلًا إباحيًا لا يرجو ثوابًا ولا يخاف عقابًا ويرى أنه وأهل نحلته على هدى وجميع من خالفهم أهل ضلالة وإنه قصد بذلك أن يجعل له أبتاعًا وكان يدعو إلى الإمام من آل البيت محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وأنه كان من الأهواز واشتهر بالعلم والتشيع وصار له دعاة وقصد بالمكروه ففر إلى البصرة فاشتهر أمره وسار منها إلى سلمية من أرض الشام فولد له ابن بها اسمه: أحمد ومات فقام من بعده أحمد وبعث بالحسين الأهوازي داعية إلى العراق فلقي أحمد بن الأِشعث المعروف: بقرمط في سواد الكوفة ودعاه إلى مذهبه فأجابه وقام هناك بالأمر وإلى قرمط هذا تنسب القرامطة وولد لأحمد بن عبد الله بن ميمون القداح: الحسين: و محمد المعروف بأبي الشعلع فلما مات أحمد خلفه ابنه الحسين في الدعوة حتى مات فقام من بعده أخوه: أبو الشعلع وكان لأحمد بن عبد الله ولد اسمه سعيد فصار تحت حجر عمه وبعث أبو الشعلع بداعيين إلى المغرب وهما: أبو عبد الله وأخوه أبو العباس فنزلا في البربر ودعوها واشتهر سعيد بسلمية بعد موت عنه وكثر ماله فطلبه السلطان ففر من سلمية إلى مصر يريد المغرب وكان على مصر عيسى النوشري فورد عليه كتاب الخليفة ببغداد بالقبض عليه ففاته وصار بسلجماسة في زي التجار فبعث المعتضد من بغداد في طلبه فأخذ وحبس حتى أخرجه أبو عبد الله الشيعي من محبسه فتسمى حينئذ بعبيد الله وتكنى بأبي محمد وتلقب بالمهدي وصار إمامًا علويًا من ولد محمد بن جعفر الصادق وإنما هو: سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح بن ديصان البوني الأهوازي وأصله من المجوس فهذا قول من ينكر نسبهم. وبعض منكري نسبهم في العلوية يقول: إن عبيد الله من اليهود وإن الحسين بن أحمد المذكور تزوج امرأة يهودية من نساء سلمية كان لها ابن من يهودي حداد مات وتركه لها فرباه الحسين وأدبه وعلمه ثم مات عن غير ولد فعهد إلى ابن امرأته هذا فكان هو: عبيد الله المهدي وهذه أقوال إن أنصفت تبين لك أنها موضوعة فإن بني علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد كانوا إذ ذاك على غاية من وفور العدد وجلالة القدر عند الشيعة فما الحامل لشيعتهم على الإعراض عنهم والدعاء لابن مجوسي أو لابن يهودي فهذا مما لا يفعله أحمد ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف وإنما جاء ذلك من قبل ضعفة خلفاء بني العباس عندما غصوا بمكان الفاطميين فإنهم كانوا قد اتصلت دولتهم نحوًا من مائتين وسبعين سنة وملكوا من بني العباس: بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والحرمين فلاذت حينئذ لهم ببغداد نحو أربعين خطبة وعجزت عساكر بني العباس عن مقاومته فلاذت حينئذ بتنفير الكافة عنهم بإشاعة الطعن في نسبهم وبث ذلك عنهم خلفاؤهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم الذين كانوا يحاربون عساكر الفاطميين كي يدفعوا بذلك عن أنفسهم وسلطانهم معرة العجز عن مقاومتهم ودفعهم عما غلبوا عليه من ديار مصر والشام والحرمين حتى اشتهر ذلك ببغداد وأسجل القضاة بنفيهم من نسب العلويين. وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم الشريفان: الرضي والمرتضى وأبو حامد الإسفرايني والقدوري في عدة وافرة عندما جمعوا لذلك في سنة اثنتين وأربعمائة أيام القادر وكانت شهادة القوم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد وأهلها إنما هم شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب والمتطيرون من بني علي بن أبي طالب الفاعلون فيهم منذ ابتداء دولتهم الأفاعيل القيبحة فنقل الإخباريون وأهل التاريخ ذلك كما سمعوه ورووه حسب ما تلقوه من غير تدبر والحق من وراء هذا وكفاك بكتاب المعتضد من خلائف بني العباس حجة فإنه كتب في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسلجماسة بالقبض على عبيد فتفطن أعزل الله لصحة هذا الشاهد فإن المعتضد لولا سح نسب عبيد الله عنده ما كتب لمن ذكرنا بالقبض عليه إذ القوم حينئذ لا يدعو لدعي البتة ولا يذعنون له بوجه وإنما ينقادون لمن كان علويًا فخاف مما وقع ولو كان عنده من الأدعياء لما مر له بفكر ولا خافه على ضيعة من ضياع الأرض وإنما كان القوم أعني بني علي بن أبي طالب تحت ترقب الخوف من بني العباس لتطلبهم لهم في كل وقت وقصدهم إياهم دائمًا بأنواع من العقاب فصاروا ما بين طريد شريد وبين خائف يترقب ومع ذلك فإن لشيعتهم الكثيرة المنتشرة في أقطارهم من المحبة لهم والإقبال عليهم ما لا مزيد عليه وتكرر قيام الرجال منهم مرة بعد مرة والطلب عليهم من ورائهم فلاذوا بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون حتى تسمى محمد بن إسماعيل الإمام جد عبيد الله المهدي بالمكتوم سماه بذلك الشيعة عند اتفاقهم على إخفائه حذرًا من المتغلبين عليهم. وكانت الشيعة فرقًا فمنهم: من كان يذهب إلى أن الإمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعيل ابنه وهؤلاء يعرفون ممن بين فرق الشيعة: بالإسماعيلية من أجل أنهم يرون أن الإمام من بعد جعفر ابنه إسماعيل وأن الإمام بعد إسماعيل بن جعفر الصادق هو ابنه محمد المكتوم وبعد ابنه محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق ومن بعد جعفر الصادق ابنه محمد الحبيب وكانوا أهل غلو في دعاويهم في هؤلاء الأئمة وكان محمد بن جعفرهذا يؤمل ظهوره وأنه يصير له دولة وكان باليمن من أهل هذا المذهب كثير يعدن بإفريقية وفي كتامة تلقوا ذلك من عهد جعفر الصادق فقدم على محمد بن جعفر والد عبيد الله رجل من شيعته باليمن فبعث معه الحسن بن حوشب في سنة ثمان وستين ومائتين فأظهرا أمرهما باليمن وأشهرا الدعوة في سنة سبعين وصار لابن حوشب دولة بصنعاء وبث الدعاة بأقطار الأرض وكان من جملة دعاته أبو عبد الله الشيعي فسيره إلى المغرب فلقي كتامة ودعاهم فلما مات محمدبن جعفر عهد لابنه عبيد الله فطلبه المكتفي العباسي وكان يسكن عسكر مكرم فسار إلى الشام ثم سار إلى المغرب فكان من أمره ما كان وكانت رجال هذه الدولة الذين قاموا ببلاد المغرب وديار مصر عشر رجلًا هذه خلاصة أخبارهم في أنسابهم فتفطن ولا تغتر بزخرف القول الذي لفقوه من الطعن فيهم والله يهدي من يشاء. ذكر الخلفاء الفاطميين وكان ابتداء الدولة الفاطمية أن أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكرياء الشيعي سار إلى أبي القاسم الحسين بن فرج بن حوشب الكوفي القائم ببلاد اليمن وصار من كبار أصحابه وله علم وعنده دهاء ومكر فورد على ابن حوشب من المغرب خبر موت الحلواني داعية في المغرب ورفيقه فقال لأبي عبد الله الشيعي: قد خرب الحلواني وأبو يوسف بلاد المغرب وقد ماتا وليس للبلاد إلا أنت فإنها موطأة ممهدة فخرج أبو عبد الله إلى مكة وقصد حجاج كتامة فجلس قريبًا منهم وسمعهم يتحدثون بفضائل البيت فحدثهم في معناه فمالوا إليه وسألون أن يأذن لهم في زيارته فلما زاروه سألوه عن مقصده فلم يخبرهم وأوهمهم أنه يريد مصر فسروا بصحبته ورحلوا وهو رفيقهم فشاهدوا من عبادته وزهده ما زادهم رغبة فيه هذا وهو يسألهم عن أحوالهم وقبائلهم حتى صار يعرف جميع أمورهم فلما وصلوا مصر هم بمفارقتهم فقالوا: أي شيء تطلب من مصر فقال: أطلب التعليم بها فقالوا: إذا كان قصدك هذا فبلادنا أنفع لك وما زالوا به حتى سار معهم فلما وصلوا بلادهم اقترعوا فيمن يضيفه منهم ومن بقية أصحابهم ووصلوا به أرض كتامة لليصف من ربيع الأول سنة ثمان وثمانين ومائتين وكادوا يحتربون عليه أيهم ينزل عنده فأبى أن ينزل عندهم وقال: أين نكون فج الأخيار فعجبوا لذلك! إذ لم يكونواذكروه له قط فدلواه عليه فسار إليه وقال: هذا فج الأخيار وما سمي إلا بكم ولقد جاء في الآثار للمهدي هجرة عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتق من الكتمان وبخروجكم في هذا الفج سمي فج الأخيار فتسامعت به القبائل وأتوه فعظم أمره وهو لا يذكر اسم المهدي البته فبلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية فبعث يسأل عن خبره وكانت لهمعه قصص آلت إلى قيام أبي عبد الله ومحاربته لمن خالفه فظفر بهم وصارت إليه أموالهم وغلب على مدائن وهزم جيوش ابن الأغلب وقتل كثيرًا من اصحابه فمات إبراهيم بن الأغلب وولي زيادة الله بن الاغلب وكان كثير اللهو فقوي أمر أبي عبد الله وانتشرت جنوده في البلاد وصار يقول: المهدي يخرج في هذه الأيام ويملك الأرض فيا طوبى لمن هاجر إلي وأطاعني ويغري الناس بزيادة الله بن الأغلبويعيبه وكان أكثر خواص زيادة الله شيعة فلم يكن يسوءهم ظفر أبي عبد الله وأكثر من ذكر كرامات المهدي والإرسال إلى أصحاب زيادة الله إلى أن تمكن فبعث برجال من كتامة إلى سلمية من أرض الشام فقدموا على عبيد الله وأخبروه بما فتح الله عليه وكان قد اشتهر هناك وطلبه الخليفة المكتفي فخرج من سلمية فارًا ومعه ابنه أبو القاسم نزار ومعهما أهلهما ومواليهما فأقاما بمصر مستترين فوردت على عيسى النوشري أمير مصر الكتب من بغداد بصفة عبيد الله وحليته وإنه يأخذ عليه الطريق ويقبضه فبلغ ذلك عبيد الله فخرج والأعوان في طلبه ويقال: إن النوشري ظفر به فناشده الله في أمره فخلى عنه ووصله فسار إلى طرابلس وقد سبق خبره إلى زيادة الله فسار إلى قسطيلية فقدم كتاب زيادة الله بن الأغلب إلى عامل طرابلس بأخذ عبيد الله وقد فاتهم فلم يدركوه فرحل إلى سلجماسة وأقام بها وقد أقيمت له المراصد بالطرقات فتلطف باليسع بن مدرار صاحب سلجماسة وأهدى إليه فكف عنه ووافاه كتاب زيادة الله بالقبض على عبيد الله فلم يجد بدًا من أن قبض عليه وشجنه واشتغل زيادة الله بجمع العساكر لمحاربة أبي عبد الله وتجهيزهم إلأيه فغلبهم أبو عبد الله وغنم سائر ما معهم وقتل أكثرهم وبلغه ما كان من سجن عبيد الله فكتب إليه يبشره فوصل إليه الكتاب وهو بالسجن مع قصاب دخل به إليه وهو يبيع اللحم وما زال أبو عبد الله يضايق زيادة الله إلى أ فر إلى مصر وقالم من بعده إبراهيم بن الأغلب فلم يتم له أمر وملك أبو عبد الله القيروان ونزل برقادة مستهل رجب سنة ست وتسعين ومائتين فأمر ونهى وبث العمال في الأعمال وقتل من يخاف شره وأمر فنقش على السكة في أحد الوجهين: بلغت حجة الله وفي الآخرة: تفرق أعداء الله ونقش على السلاح عدة في سبيل الله ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله وأقام على ما كان عليه من لبس الخشن الدون وتناول القليل الغليظ من الطعام فلما دخل شهر رمضان سار من رقادة في جيوش عظيمة اهتز لها المغرب بأسره يريد سلجماسة فحاربه اليسع يومًا كاملًا إلى الليل ثم فر في خاصته فدخل أبو عبد الله من الغد إلى البلد وأخرج عبي الله وابنه ومشى في ركابهما بجميع رؤساء القبائل وهو يقول للناس: هذا مولاكم وهو يبكي من شدة الفرح حتى وصل بهما إلى فسطاط ضربه في العسكر فأنزلهما فيه وبعث الخيل في طلب اليسع فأركته وجاءت به فقتله وأقام عبيد الله بسلجماسة أربعين يومًا ثم سار إلى إفريقية في ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ونزل برقادة وأمر يوم الجمعة أن يذكر في الخطبة وتلقب بالمهدي أمير المؤمنين فدعي له في جميع البلاد بذلك وجلس بعد الصلاة الدعاة ودعوا الناس كافة إلى مذهبهم فمن أجاب قبل منه ومن أبى قتل ووعرض جواري زيادة الله واختار منهن لنفسه ولولده وفرق ما بقي على وجوه كتامة وقسم عليهم أعمال إفريقية ودون الدواوين وجبى الأموال ودانت له البلاد فشق ذلك على أبي عبد الله ونافس المهدي وحسده من أجل أنه كف يده ويد أخيه أبي العباس فعظم عليه الفطام عن الأمر والنهي والأخذ والعطاء وأقبل أبو العباس يرزي على المهدي في مجلس أخيه ويؤنب أخاه على ما فعل حتى أثر في نفسه فسأل المهدي: أن يفوض إليه الأمور ويجلس في القصر وكان قد بلغ المهدي ما يجهر به أبو العباس من السوء في حقه فرد أبا عبد الله ردًا لطيفًا وأسرها في نفسه وأكثر أبو العباس من قوله متى أغرى المقدمين بالمهدي وقال: ما هذا بالذي كنا نعتقد طاعته وندعو إليه لأن المهدي يأتي بالآيات الباهرة فمال إليه جماعة وواجه بعضهم المهدب بذلك وقال له: إن كنت المهدي فأظهر لنا آية فقد شككنا فيك فبعد ما بين المهدي وبين أبي عبد الله وأوجس كل منهما في نفسه خيفة من الآخر وأخذ أبو العباس يدبر في قتل المهدي والمهدي يحل ما كان يبرمه ثم رتب رجالًا فلما ركب أبو عبد الله وأخوه إلى قصر المهدي ثار بهما الرجال فقال أبو عبد الله: لا تفعلوا فقالوا له: إن الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك فقتل هو وأخوه للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة فثارت فتنة بسبب قتلهما فركب المهدي حتى سكنت وتتبع جماعة منهم فقتلهم فلما استقام له الأمر عهد إلى ابنه أبي القاسم وتتبع بني الأغلب فقتل منهم جماعة وجهز في سنة إحدى وثلثمائة ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر فأخذ برقة والإسكندرية والفيوم وكانت له مع عساكر مصر وعساكر العراق الواردة إلى مصر مع مؤنس الخادم عدة خروب وعاد إلى الغرب فجهز المهدي في سنة اثنتين وثلثمائة: حباسة بجيوش إلى مصر فغلب على الإسكندرية وكان من أمره ما تقدم ذكره. وكان للمهدي ببلاد المغرب عدة حروب وكان يوجد في الكتب خروج أبي يزيد النكاري على دولته فبنى المهدية وأدار عليها سورًا جعل فيه أبوابًا زنة كل مصراع منها مائة قنطار من حديد وكان ابتداء بنائها في ذي القعدة سنة ثلاث وثلثمائة وبنى المصلى بظاهرها وقال: إلى هنا يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد فكان كذلك وأنشأ صناعة فيها تسعمائة شونة وقال: إنما بنيت هذه لتعتصم الفواطم بها ساعة من نهار فكان كذلك ثم إنه جهز ابنه أبا القاسم في سنة ست وثلثمائة على جيش إلى مصر فأخذ الإسكندرية وملك جزيرة الأشمونين وكثيرًا من صعيد مصر وكانت هناك حروب مع عساكر مصر والعراق ثم عاد إلى المغرب وخرج أبو القاسم في سنة خمس عشرة بالجيوش إلى المغرب فحارب قومًا وعاد فمات عبيد الله في ليلة الثلاثاء منتصف شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة بالمهدية من القيروان عن ثلاث وستين سنة وكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة وشهرًا وعشرين يومًا ولما مات: أخفى ابنه موته. وقام من بعد عبيد الله المهدي ولي عهده: القائم بأمر الله أبو القاسم محمد ويقال: كان اسمه بالمشرق: عبد الرحمن فتسمى في بلاد المغرب: بمحمد وذلك بسلمية في المحرم سنة ثمانين ومائتين فلما فرغ من جميع ما يريده وتمكن أظهر موت أبيه واستقل بالأمر وله سبع وأربعون سنة وتبع سيرة أبيه وثار عليه جماعة فظفر بهم وبث جيوشه في البر والبحر فسبوا وغنموا من بلد جنوة وبعث جيشًا إلى مصر فملكوا الإسكندرية والإخشيد يومئذ أمير مصر فلما كان في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة خرج عليه أبو يزيد مخلد بن كندار النكاري الخارجي بإفريقية واشتدت شوكته وكثرت أتباعه وهزم جيوش القائم غير مرة وكان مذهبه تكفير أهل الملة وإراقة دمائهم ديانة فملك باجه وحرقها وقتل الأطفال وسبى النسوان ثم ملك القيروان فاضطرب القائم وخاف الناس وهموا بالنقلة من زويلة وقوي أمر أبي يزي ونازل المهدية وحصر القائم بها وكاد أن يغلب عليها فلما بلغ المصلى حيث أشار المهدي أنه يصل هزمه أصحاب القائم وقتلوا كثيرًا من أصحابه وكانت له قصص وأنباء إلى أن مات القائم لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وثلاثين وثلثمائة عن أربع وخمسين سن وتسعة أشهر ولم يرق منبرًا ولا ركب دابة لصيد مدة خلافته حتى مات وصلى مرة على جنازة وصلى بالناس العيد مرة واحدة وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وأيامًا وترك أبا الظاهر إسماعيل وأبا عبد الله جعفرًا وحمزة وعدنان وعدة أخر. وقام من بعده ابنه: المنصور بنصر الله أبو الظاهر إسماعيل وكتم موت أبيه خوفًا أن يعلم أبو يزيد فإنه كان قريبًا منه وأبقى الأمور على حالها ولم يتسم بالخليفة ولا غير السكة ولا الخطبة ولا البنود وجد في حرب أبي يزيد حتى ظفر به وحمل إليه فمات من جراحات كانت به سلخ المحرم سنة ست وثلاثين وثلثمائة ولم يزل المنصور إلى أن مات سلخ شوال سنة إحدى وأربعين وثلثمائة عن إحدى وأربيعن سنة وخمسة أشهر وكانت مدة خلافته ثمان سنين وقيل: سبع سنين وعشرة أيام وقد اختلف في تاريخ ولادته فقيل: ولد أول ليلة من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلثمائة بالمهدية وقيل: بل ولد في سنة اثنتين وقيل: سنة إحدى وثلثمائة وكان خطيبًا بليغًا يرتجل الخطبة لوقته شجاعًا عاقلًا. وقام من بعده ابنه: المعز لدين الله أبو تميم معد وعمره نحو أربع وعشرين سنة فإنه ولد للنصف من رمضان سنة سبع عشرة وثلثمائة فانقاد إليه البربر وأحسن إليهم فعظم أمره واختص من مواليه: بجوهر وكناه بأبي الحسين وأعلى قدره وصيره في رتبة الوزارة وعقد له على جيش كثيف فيهم: الأمير زيري بن مناد الصنهاجي فدوخ المغرب وافتتح مدنًا وقهر عدة أكابر وأسرهم حتى أتى البحر المحيط فأمر باصطياد سمكة منه وسيرها في قلة من ماء إلى المعز إشارة إلى أنه ملك حتى سكان المحيط الذي لا عمارة بعده ثم قدم غانمًا مظفرًا فعظم قدره عند المعز ولما كان في بعض الأيام استدعى المعز في يوم شات عدة من شيوخ كتامة فدخلوا عليه في مجلس قد فرش باللبود وحوله كساء وعليه جبة وحوله أبواب مفتحة تفضي فقال: يا إخواننا أصبحب اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد فقلت لأم الأمراء وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشر ونتقلب في المثقل والديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر والقباء كما يفعل أرباب الدنيا ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضرتكم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم واحتجبت عنكم وإني لا أفضلكم في أحوالكم إلا بما لابد لي منه من دنياكم وبما خصني الله به من إمامتكم وإني مشغول بكتب ترد علي من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطي وإني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحكم ويعمر بلادكم ويذل أعداءكم ويقمع أضدادكم فافعلوا يا شيوخ في خواتكم مثل ما أفعله ولا تظهروا التكبر والتجبر فينزع الله النعمة عنكم وينقلها إلى غيركم وتحننوا علي من رواءكم ممن لا يصل إلى كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل ويكثر الخير وينتشر العدل وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا الواحدة التي تكون لكم ولا تشرهوا إلى التكثر منهن والرغبة فيهن فيتنغص عشيكم وتعود المضرة عليكم وانهكوا أبدانكم وعقولكم واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرب الله علينا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب بكم انهضوا رحمكم الله ونصركم فخرجوا عنه واستدعى يومًا أبا جعفر حسين ين مهذب صاحب بيت المال وهو في وسط القصر قد جلس على صندوق وبين يديه ألوف صناديق مبددة فقال له: هذه صناديق مال وقد شذ عني ترتيبها فانظرها ورتبها قال: فأخذت أجمعها إلى أن صارت مرتبة وبين يديه جماعة من خدام بيت المال والفراشين فأنفذت إليه أعلمه فأمر برفعها في الخزائن على ترتيبها وأن يغلق عليها وتختم بخاتمه وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار وذلك في سنة سبع وخمسين وثلثمائة فأنفقها أجمع على العساكر التي سيرها إلى مصر من سنة ثمان وخمسين إلى سنة اثنتين وستين وثلثمائة. ولما أخذ في تجهيز جوهر بالعساكر إلى أخذ ديار مصر حتى تهيأ أمره وبرز للمسير بعث المعز خفيفًا الصقلبي إلى شيوخ كتامة يقول: يا إخواننا قد رأينا أن ننفذ رجالًا إلى بلدان كتامة يقيمون بينهم ويأخذون صدقاتهم ومراعيهم ويحفظونها عليهم في بلادهم فإذا احتجنا إليها أنفذنا خلفها فاستعنا بها على ما نحن بسبيله فقال بعض شيوخهم لخفيف لما بلغه ذلك قل لمولانا والله لا فعلنا هذا أبدًا كيف تؤددي كتامة الجزية ويصير عليها في الديوان ضريبة وقد أعزها الله قديمًا بالإسلام وحديثًا معكم بالإيمان وسيوفنا بطاعتكم في المشرق والمغرب فعاد خفيف إلى المعز بذلك فأمر بإحضار جماعة كتامة فدخلوا عليه وهو راكب فرسه فقال: ما هذا الجواب الذي صدر عنكم فقالوا: هذا جواب جماعتنا ما كنا يا مولانا بالذي يؤدي جزية تبقى علينا فقام المعز في ركابه وقال: بارك الله فيكم فهكذا أريد أن تكونوا وإنما أردت أن أختبركم فانظر كيف أنتم بعدي فسار جوهر وأخذ مصر كما قد ذكر عند سور القاهرة من هذا الكتاب. فلما ثبتت قدم جوهر بمصر كتب إليه المعز جوابًا عن كتابه وأما ما ذكرت يا جوهر من أن جماعة بني حمدان وصلت إليك كتبهم يبذلون الطاعة ويعدون بالمسارعة في المسير إليك فاسمع لما أذكره لك احذر أ تبتدئ أحدًا من آل حمدان بمكاتبة ترهيبًا له ولا ترغيبًا ومن كتب إليك كتابًا منهم فأجبه بالحسن الجميل ولا تستدعه إليك ومن ورد إليك منهم فأحسن إليه ولا تمكن أحدًا منهم من قيادة جيش ولا ملك طرف فبنو حمدان يتظاهرون بثلاثة أشياء عليها مدار العالم وليس لهم فيها نصيب يتظاهرون بالدين وليس لهم فيه نصيب ويتظاهرون بالكرم وليس لواحد منهم كرم في الله ويتظاهرون بالشجاعة وشجاعتهم للدنيا لا للآخرة فاحذر كل الحذر من الاستناد إلى أحد منهم. ولما عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره فيمن يخلفه في بلاد المغرب فوقع اختياره على جعفر بن علي الأمير فاستدعاه وأسر إليه أنه يريد استخلافه بالمغرب فقال: تترك معي أحد أولادك أو إخوتك يجلس في القصر وأنا أدبر ولا تسألني عن شيء من الأموال لأن ما أجيبه يكون بإزاء ما أنفقه من الأموال وإذا أردت أمرًا فعلته من غير أن أنتظر ورود أمرك فيه لبعد ما بين مصر والمغرب ويكون تقليد القضاء والخراج وغيره إلي فغضب المعز وقال: يا جعفر عزلتني عن ملكي وأردت أن تجعل لي فيه شريكًا في أمري واستبددت بالأعمال والأموال دوني قم فقد أخطأت حظك وما أصبت رشدك ثم إنه استدعى يوسف بن زيري الصنهاجي وقال له: تأهب لخلافة المغرب فأكبر ذلك وقال: يا مولانا أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صفا لكم المغرب فكيف يصفو لي وأنا صنهاجي بربري قتلتني يا مولانا بغير سيف ولا رمح فما زال به المعز حتى أجاب بشريطة أن المعز يولي القضاء والخراج لمن يراه ويختاره ويجعل الحيز لمن يثق به ويجعله قائمًا بين أيدي هؤلاء فمن استعصى عليهم يأمره هؤلاء به حتى يعمل به ما يجب ويكون الأمر لهم ويصير كالخادم بين أولئك فأحب المعز ما قال وشكره فلما انصرف قال أبو طالب بن القائم بأمر الله للمعز يا مولانا وتثق بهذا القول من يوسف وإ ه يقوم بوفاء ما ذكر فقال المعز: يا عمنا كم بين قول يوسف وقول جعفر فاعلم يا عم أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداءً هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف وإذا تطاولت المدة سينفرد بالأمر ولكن هذا أولًا أحسن وأجود عند ذوي العقل وهو نهاية ما يفعله وكانت أم الأمراء قد وجهت من المغرب صبية لتباع بمصر فعرضها وكيلهافي مصر للبيع وطلب فيها ألف دينار فحضر إليه في بعض الأيام امرأة شابة على حمار لتقلب الصبية فساومته ففيها وابتاعتها منه ستمائة دينار فإذا هي ابنة الإخشيد محمد بن طفج وقد بلغها خبر هذه الصبية. فلما رأتها شغفتها حبًا فاشترتها لتستمتع بها فعاد الوكيل إلى المغرب وحدث المعز بذلك فأحضر الشيوخ وأمر الوكيل فقص عليهم خبر ابنة الإخشيد مع الصبية إلى آخره فقال المعز: يا إخواننا انهضوا إلى مصر فلن يحول بينكم وبينها شيء فإن القوم قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بناب الملوك فيهم تخرج بنفسها وتشتري جارية لتتمتح بها وما هذا إلا من ضعف نفوس رجالهم وذهاب غيرتهم فانهضوا لمسيرنا إليهم فقالوا: السمع والطاعة فقال خذوا في حوائجكم فنحن نقدم الاختيار لمسيرنا إن شاء الله تعالى. وكان قيصر ومظفر القلبيان قد بلغا رتبة عظيمة عند المنصور والد المعز وكان المظفر يدل على المعز من أجل أنه علمه الخط في صغره فحرد عليه مرة وولى فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلبية استراب منها ولقنها منه وأنفت نفسه من السؤال عن معناها فأخذ يحفظ اللغات فابتدأ بتعلم اللغة البربرية حتى أحكمها ثم تعلم الرومية والسودانية حتى أتفنهما ثم أخذ يتعلم الصقلبية فمرت به تلك الكلمة فإذا هي سب قبيح فأمر بمظفر فقتل من أجل تلك الكلمة وبلغه أمر الحرب التي كانت بين بني حسن وبني جعفر بالحجاز حتى قتل من بني حسن أكثر ممن قتل من بنى جعفر فأنفذ مالًا ورجالًا في السر ما زالوا بالطائفتين حتى اصطلحتا وتحمل الرجال عن كل منهما الحمالات فجاء الفاضل في القتلى لبني حسن عند جعفر نحو سبعين قتيلًا فأدوا عنهم وعقدوا بينهم الصلح في الحرم تجاه الكعبة وتحملوا عنهم الديات من مال المعز وكان ذلك في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة فصارت هذه الفعلة يدًا عند بني حسن للمعز فلما ملك جوهر مصر: بادر حسن بن جعفر الحسني بالدعاء للمعز في مكة وبعث إلى جوهر بالخبر فسير إلى المعز يعرفه بإقامة الدعوة بمكة فأنفذ إليه بتقليده الحرم وأعماله.
|