الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
5 - تختلف كيفيّة قبض الأشياء بحسب اختلافها في نفسها، وهي في الجملة نوعان: عقار ومنقول. أ - كيفيّة قبض العقار: 6 - اتّفق الفقهاء على أنّ قبض العقار يكون بالتّخلية والتّمكين من اليد والتّصرّف. فإن لم يتمكّن منه بأن منعه شخص آخر من وضع يده عليه، فلا تعتبر التّخلية قبضاً. وقيّد الشّافعيّة: ذلك بما إذا كان العقار غير معتبر فيه تقدير، أمّا إذا كان معتبراً فيه - كما إذا اشترى أرضاً مذارعةً - فلا تكفي التّخلية والتّمكين، بل لا بدّ مع ذلك من الذّرع. كما اشترط الحنفيّة أن يكون العقار قريباً، فإن كان بعيداً فلا تعتبر التّخلية قبضاً، وهو رأي الصّاحبين وظاهر الرّواية والمعتمد في المذهب، خلافاً لأبي حنيفة، فإنّه لم يعتبر القرب والبعد، واستظهر ابن عابدين أنّ المراد بالقرب في الدّار بأن تكون في البلد، ثمّ إنّهم نصّوا على أنّ العقار إذا كان له قفل، فيكفي في قبضه تسليم المفتاح مع تخليته، بحيث يتهيّأ له فتحه من غير تكلّف. وقد ألحق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة الثّمر على الشّجر بالعقار في اعتبار التّخلية مع ارتفاع الموانع قبضاً له، لحاجة النّاس إلى ذلك وتعارفهم عليه. ب - كيفيّة قبض المنقول: 7 - اختلف الفقهاء في كيفيّة قبض المنقول: فذهب جمهور الفقهاء إلى التّفريق بين المنقولات فيما يعتبر قبضاً لها، حيث إنّ بعضها يتناول باليد عادةً وبعضها الآخر لا يتناول، وما لا يتناول باليد نوعان، أحدهما: لا يعتبر فيه تقدير في العقد، والثّاني: يعتبر فيه، فتحصل لديهم في المنقول ثلاث حالات: الحالة الأولى: 8 - أن يكون ممّا يتناول باليد عادةً، كالنّقود والثّياب والجواهر والحليّ وما إليها، وقبضه يكون بتناوله باليد عند جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة. الحالة الثّانية: 9 - أن يكون ممّا لا يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ، إمّا لعدم إمكانه وإمّا مع إمكانه، لكنّه لم يراع فيه، كالأمتعة والعروض والدّوابّ والصّبرة جزافاً، وفي هذه الحالة اختلف المالكيّة مع الشّافعيّة والحنابلة في كيفيّة قبضه على قولين: أحدهما للمالكيّة: وهو أنّه يرجع في قبضه إلى العرف. والثّاني للشّافعيّة والحنابلة: وهو أنّ قبضه يكون بنقله وتحويله، واستدلّوا على ذلك بالمنقول والعرف، فأمّا المنقول فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: «كنّا نتلقّى الرّكبان فنشتري منهم الطّعام جزافاً، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه»، وقيس على الطّعام غيره، وأمّا العرف، فلأنّ أهله لا يعدّون احتواء اليد عليه قبضاً من غير تحويل، إذ البراجم لا تصلح قراراً له. الحالة الثّالثة: 10 - أن يكون ممّا يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ، كمن اشترى صبرة حنطة مكايلةً أو متاعاً موازنةً أو ثوباً مذارعةً أو معدوداً بالعدد، وفي هذه الحالة اتّفق الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّ قبضه يكون باستيفائه بما يقدّر فيه من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ. واشترط الشّافعيّة بالإضافة إلى ذلك نقله وتحويله. ودليل جمهور الفقهاء على أنّ قبض المقدّرات من المنقولات إنّما يكون بتوفيتها بالوحدة القياسيّة العرفيّة المراعاة فيها من الكيل أو الوزن أو الذّرع أو العدّ فهو ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه: «نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان، صاع البائع وصاع المشتري» وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يكتاله»، فدلّ ذلك على أنّه لا يحصل فيه القبض إلاّ بالكيل، فتعيّن فيما يقدّر بالكيل الكيل، وقيس عليه الباقي. 11 - وقال الحنفيّة: قبض المنقول يكون بالتّناول باليد أو بالتّخلية على وجه التّمكين. جاء في مجلّة الأحكام العدليّة: تسليم العروض يكون بإعطائها ليد المشتري أو بوضعها عنده أو بإعطاء الإذن له بالقبض مع إراءتها له. وجاء في الفتاوى الهنديّة: رجل باع مكيلاً في بيت مكايلةً أو موزوناً موازنةً، وقال: خلّيت بينك وبينه، ودفع إليه المفتاح، ولم يكله ولم يزنه، صار المشتري قابضاً. وتسليم المبيع هو أن يخلّي بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكّن المشتري من قبضه بغير حائل، وكذا التّسليم في جانب الثّمن. واستدلّ الحنفيّة على اعتبار التّخلية مع التّمكين في المنقولات قبضاً بأنّ تسليم الشّيء في اللّغة معناه جعله سالماً خالصاً لا يشاركه فيه غيره، وهذا يحصل بالتّخلية، وبأنّ من وجب عليه التّسليم لا بدّ وأن يكون له سبيل للخروج من عهدة ما وجب عليه، والّذي في وسعه هو التّخلية ورفع الموانع، أمّا الإقباض فليس في وسعه، لأنّ القبض بالبراجم فعل اختياريّ للقابض، فلو تعلّق وجوب التّسليم به لتعذّر عليه الوفاء بالواجب، وهذا لا يجوز. وقد وافق أحمد في رواية عنه الحنفيّة على اعتبار التّخلية في المنقول قبضاً، وذلك لحصول الاستيلاء بالتّخلية، إذ هو المقصود بالقبض، وقد حصل بها.
12 - قسّم العزّ بن عبد السّلام والقرافيّ القبض كتصرّف من تصرّفات المكلّفين من حيث مشروعيّته والإذن فيه إلى ثلاثة أضرب: الضّرب الأوّل: قبض بمجرّد إذن الشّرع دون إذن المستحقّ، وهو أنواع: منها: قبض ولاة الأمور والحكّام الأعيان المغصوبة من الغاصب، وقبضهم أموال المصالح والزّكاة وحقوق بيت المال، وقبضهم أموال الغائبين والمحبوسين الّذين لا يتمكّنون من حفظ أموالهم، وقبضهم أموال المجانين والمحجور عليهم بسفه ونحوهم. ومنها: قبض من طيّرت الرّيح ثوباً، ثمّ ألقته في حجره أو داره. ومنها: قبض المضطرّ من طعام الأجانب بغير إذنهم لما يدفع به ضرورته. ومنها: قبض الإنسان حقّه إذا ظفر به بجنسه. والضّرب الثّاني: قبض ما يتوقّف جواز قبضه على إذن مستحقّه، كقبض المبيع بإذن البائع، وقبض المستام، والقبض بالبيع الفاسد، وقبض الرّهون والهبات والصّدقات والعواريّ والودائع، وقبض جميع الأمانات. والضّرب الثّالث: قبض بغير إذن من الشّرع ولا من المستحقّ، وهذا قد يكون مع العلم بتحريمه، كقبض المغصوب، فيأثم الغاصب، ويضمن ما قبضه بغير حقّ ولا إذن، وقد يكون بغير علم، كمن قبض مالاً يعتقد أنّه ماله، فإذا هو لغيره، قال القرافيّ: فلا يقال إنّ الشّرع أذن له في قبضه، بل عفا عنه بإسقاط الإثم، وعلى ذلك فلا إثم عليه، ولا إباحة فيه، وهو في ضمانه.
13 - القبض الحكميّ عند الفقهاء يقام مقام القبض الحقيقيّ، وإن لم يكن متحقّقاً حسّاً في الواقع، وذلك لضرورات ومسوّغات تقتضي اعتباره تقديراً وحكماً، وترتيب أحكام القبض الحقيقيّ عليه، وذلك في حالات ثلاث: الحالة الأولى: عند إقباض المنقولات بالتّخلية مع التّمكين في مذهب الحنفيّة، ولو لم يقبضها الطّرف الآخر حقيقةً، حيث إنّهم يعدّون تناولها باليد قبضاً حقيقيّاً، والقبض بالتّخلية قبضاً حكميّاً، بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة عليه كأحكام القبض الحقيقيّ. الحالة الثّانية: إذا وجب الإقباض واتّحدت يد القابض والمقبض وقع القبض بالنّيّة، قال القرافيّ: ومن الإقباض أن يكون للمديون حقّ في يد ربّ الدّين، فيأمره بقبضه من يده لنفسه، فهو إقباض بمجرّد الإذن، ويصير قبضه له بالنّيّة، كقبض الأب من نفسه لنفسه مال ولده إذا اشتراه منه. الحالة الثّالثة: اعتبار الدّائن قابضاً حكماً وتقديراً للدّين إذا كانت ذمّته مشغولةً بمثله للمدين، وذلك لأنّ المال الثّابت في الذّمّة إذا استحقّ المدين قبض مثله من دائنه بعقد جديد أو بأحد موجبات الدّين، فإنّه يعتبر مقبوضاً حكماً من قبل ذلك المدين. وشواهد ذلك من نصوص الفقهاء عديدة، منها: أ - اقتضاء أحد النّقدين من الآخر: قال ابن قدامة: ويجوز اقتضاء أحد النّقدين من الآخر، ويكون صرفاً بعين وذمّة في قول أكثر أهل العلم، وقال الأبيّ المالكيّ: لأنّ المطلوب في الصّرف المناجزة، وصرف ما في الذّمّة أسرع مناجزةً من صرف المعيّنات، لأنّ صرف ما في الذّمّة ينقضي بنفس الإيجاب والقبول والقبض من جهة واحدة، وصرف المعيّنات لا ينقضي إلاّ بقبضهما معاً، فهو معرّض للعدول، فصرف ما في الذّمّة أولى بالجواز. واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء». قال الشّوكانيّ: فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثّمن الّذي في الذّمّة بغيره، وظاهره أنّهما غير حاضرين جميعاً، بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم، فدلّ على أنّ ما في الذّمّة كالحاضر. ب - المقاصّة: إذا انشغلت ذمّة الدّائن بمثل ما له على المدين في الجنس والصّفة ووقت الأداء، برئت ذمّة المدين مقابلةً بالمثل من غير حاجة إلى تقابض بينهما، ويسقط الدّينان إذا كانا متساويين في المقدار، لأنّ ما في الذّمّة يعتبر مقبوضاً حكماً، فإن تفاوتا في القدر، سقط من الأكثر بقدر الأقلّ، وبقيت الزّيادة، فتقع المقاصّة في القدر المشترك، ويبقى أحدهما مديناً للآخر بما زاد. (ر: مقاصّة). ج - تطارح الدّينين صرفاً: ذهب الحنفيّة والمالكيّة والسّبكيّ من الشّافعيّة وابن تيميّة من الحنابلة إلى أنّه لو كان لرجل في ذمّة آخر دنانير، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذمّتيهما، فإنّه يصحّ ذلك الصّرف، ويسقط الدّينان من غير حاجة إلى التّقابض الحقيقيّ - مع أنّ التّقابض في الصّرف شرط لصحّته بإجماع الفقهاء - وذلك لوجود التّقابض الحكميّ الّذي يقوم مقام التّقابض الحسّيّ، قالوا: لأنّ الذّمّة الحاضرة كالعين الحاضرة، غير أنّ المالكيّة اشترطوا أن يكون الدّينان قد حلاّ معاً، فأقاموا حلول الأجلين في ذلك مقام النّاجز بالنّاجز، أي اليد باليد. قال ابن تيميّة: فإنّ كلاً منهما اشترى ما في ذمّته، وهو مقبوض له بما في ذمّة الآخر، فهو كما لو كان لكلّ منهما عند الآخر وديعة فاشتراها بوديعته عند الآخر. وخالف في ذلك الشّافعيّة والحنابلة، ونصّوا على عدم جواز صرف ما في الذّمّة إذا لم يحضر أحدهما أو كلاهما النّقد الوارد عليه عقد الصّرف، لأنّه يكون من بيع الدّين بالدّين. د - جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال السّلم: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال السّلم، لأنّ ذلك افتراق عن دين بدين وهو منهيّ عنه. وذهب ابن تيميّة وابن القيّم إلى أنّه إذا كان لرجل في ذمّة آخر ديناراً، فجعله سلماً في طعام إلى أجل، فإنّه يصحّ السّلم من غير حاجة إلى قبض حقيقيّ لرأس مال السّلم - مع اتّفاق الفقهاء على وجوب تسليم رأس المال معجّلاً لصحّة السّلم - وذلك لوجود القبض الحكميّ لرأس مال السّلم، وهو ما في ذمّة المدين المسلم إليه، فكأنّ الدّائن بعد عقد السّلم قبضه منه ثمّ ردّه إليه، فصار معجّلاً حكماً فارتفع المانع الشّرعيّ. قال ابن القيّم: لو أسلم إليه في كرّ حنطة بعشرة دراهم في ذمّته، فقد وجب له عليه دين، وسقط له عنه دين غيره، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا، واختار جوازه، وهو الصّواب.
الشّرط الأوّل: أن يكون الشّخص أهلاً للقبض: 14 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط لصحّة القبض صدوره من أهل له، غير أنّهم اختلفوا فيمن يكون أهلاً له على ثلاثة أقوال: فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة القبض صدوره من جائز التّصرّف، وهو البالغ العاقل غير المحجور عليه. وذهب الحنفيّة إلى أنّ أهليّة الشّخص للقبض هي نفسها أهليّة التّصرّفات القوليّة والعقود، فيشترط لصحّة القبض أن يكون القابض عاقلاً، فلا يصحّ قبض المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل، أمّا البلوغ، فيشترط لصحّة القبض في بعض التّصرّفات دون بعض، وتصرّفات الصّبيّ المميّز غير البالغ ثلاثة أنواع: النّوع الأوّل: التّصرّفات النّافعة نفعاً محضاً، كما إذا وهب الصّبيّ، أو تصدّق أحد عليه، أو أوصى له، وفي هذه الحالة لا يشترط لصحّة قبضه بلوغه إذا كان يعقل استحساناً. النّوع الثّاني: التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً كتبرّعاته وكفالته بالنّفس أو بالمال، وفي هذه الحالة لا تصحّ تصرّفاته، وما ينشأ عنها من قبوض لاشتراط البلوغ في صحّتها. النّوع الثّالث: التّصرّفات الدّائرة بين النّفع والضّرر، كبيعه وشرائه وإجارته واستئجاره ونكاحه وما شاكل ذلك، وهذه التّصرّفات وما ينشأ عنها من قبوض يتوقّف نفاذها على إجازة وليّ الصّغير، فإن أجازها نفذت، وإن ردّها بطلت. وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يشترط لصحّة القبض صدوره ممّن يتمتّع بأهليّة المعاملة، بل تكفي الصّفة الإنسانيّة مناطاً لاعتباره أهلاً للقبض، فيصحّ قبض الصّغير والمحجور، ويكون قبضاً تامّاً. الشّرط الثّاني: صدور القبض ممّن له ولايته: 15 - القبض نوعان: قبض بطريق الأصالة، وقبض بطريق النّيابة. أ - أمّا القبض بطريق الأصالة: فهو أن يقبض الشّخص بنفسه لنفسه، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ ولاية هذا القبض تكون لمن ثبتت له أهليّة القبض. ب - وأمّا القبض بطريق النّيابة: فولايته تثبت إمّا بتولية المالك، وإمّا بتولية الشّارع. الحالة الأولى: ولاية النّائب في القبض بتولية المالك: 16 - اتّفق الفقهاء على ثبوت ولاية الوكيل بالقبض، لأنّ من ملك التّصرّف في شيء أصالةً ملك التّوكيل فيه، والقبض ممّا يحتمل النّيابة، فكان قبض الوكيل بمنزلة قبض الموكّل ولا فرق، ولا بدّ أن يكون كلّ من الوكيل والموكّل أهلاً للقبض. وقال الحنفيّة: للوكيل بالقبض أن يوكّل غيره إن كان موكّله قد وكّله بوكالة عامّة، بأن قال له وقت التّوكيل بالقبض: اصنع ما شئت، أو ما صنعت من شيء فهو جائز عليّ، أو نحو ذلك، أمّا إذا كانت الوكالة خاصّةً، بأن لم يقل ذلك عند التّوكيل بالقبض، فليس للوكيل أن يوكّل غيره بالقبض، وإن فعل فلا تكون لمن وكّله هذه الولاية، لأنّ الوكيل إنّما يتصرّف بحدود تفويض الموكّل، فيملك قدر ما فوّض إليه لا أكثر. وقال الشّافعيّة: يصحّ الشّراء والقبض للموكّل، ولا يصحّ قبضه لنفسه، لأنّه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في قبض حقّ نفسه. ونصّ الحنابلة على أنّ المدين بطعام إذا دفع للدّائن دراهم وقال له: اشتر لي بهذه الدّراهم مثل الطّعام الّذي لك عليّ، واقبضه لي، ثمّ اقبضه لنفسك، ففعل، صحّ القبض لكلّ منهما، لأنّه وكّله في الشّراء والقبض، ثمّ الاستيفاء من نفسه لنفسه، فصار كما لو كان له وديعة من جنس الدّين عند الدّائن وأذن له في قبضها عن دينه وفي هذا المقام تعرّض الفقهاء لأحكام ثلاث مسائل: المسألة الأولى: ولاية الوكيل بالبيع في قبض الثّمن وإقباض المبيع: 17 - اختلف الفقهاء في ولاية الوكيل بالبيع في أن يقبض الثّمن من المشتري ويسلّم المبيع إليه، على أربعة أقوال: أحدها: للحنفيّة: وهو أنّ للوكيل بالبيع أن يقبض الثّمن ويسلّم المبيع للمشتري، لأنّ في الوكالة بالبيع إذناً بالقبض والإقباض دلالةً. والثّاني: للمالكيّة: وهو أنّ للوكيل بالبيع أن يقبض الثّمن ويسلّم المبيع ما لم يكن هناك عرف بأنّ الوكيل بالبيع لا يفعل ذلك. والثّالث: للشّافعيّة في الأصحّ عندهم: وهو أنّه إذا كان القبض شرطاً لصحّة العقد كالصّرف والسّلم، فللوكيل عندئذ ولاية القبض والإقباض، أمّا إذا لم يكن شرطاً كما في البيع المطلق، فيملك الوكيل بالبيع قبض الثّمن الحالّ وتسليم المبيع بعده إن لم يمنعه الموكّل من ذلك، لأنّ ذلك من حقوق العقد ومقتضياته، فكان الإذن في البيع إذناً فيه دلالةً. فإن نهاه الموكّل عن قبض الثّمن أو تسليم المبيع، أو كان الثّمن مؤجّلاً، فليس للوكيل شيء من ذلك. والرّابع: للحنابلة: وهو أنّ للوكيل بالبيع تسليم المبيع، لأنّ إطلاق الوكالة بالبيع يقتضي التّسليم، لكونه من تمامه، بخلاف قبض الثّمن، فليس للوكيل أن يقبضه، لأنّ البائع قد يوكّل بالبيع من لا يأتمنه على الثّمن. واستثنى ابن القيّم من الحكم بسلب ولاية قبض الثّمن من الوكيل بالبيع ما إذا كانت العادة الجارية قبض الوكيل بالبيع أثمان المبيعات، فقال: ولو وكّل غائباً أو حاضراً في بيع شيء، والعرف قبض ثمنه، ملك ذلك. المسألة الثّانية: ولاية الوكيل بالخصومة في قبض الحقّ: 18 - اختلف الفقهاء في ولاية الوكيل بالخصومة وإثبات الحقّ في قبضه على قولين: أحدهما: لجمهور الفقهاء من الشّافعيّة والحنابلة وزفر وهو القول المفتى به عند الحنفيّة وبه أخذت مجلّة الأحكام العدليّة: وهو أنّ الوكيل بالخصومة لا يكون وكيلاً بالقبض، ولا تثبت له ولايته، لأنّ المطلوب من الوكيل بالخصومة تثبيت الحقّ، وليس كلّ من يرتضى لتثبيت حقّ يؤتمن عليه، فقد يوثق على الخصومة من لا يوثق على المال. وأيضاً فلأنّ الإذن في تثبيت الحقّ ليس إذناً في قبضه من جهة النّطق ولا من جهة العرف، إذ الإثبات لا يتضمّن القبض، وليس القبض من لوازمه أو متعلّقاته، بخلاف مسألة الوكيل بالبيع، فإنّ تسليم المبيع وقبض الثّمن من حقوق العقد ومقتضياته، وقد أقامه الموكّل مقام نفسه فيها. والثّاني: لأبي حنيفة وصاحبيه: وهو أنّ للوكيل بالخصومة أن يقبض الحقّ بعد إثباته، لأنّه لمّا وكّله بالخصومة في مال، فقد ائتمنه على قبضه، لأنّ الخصومة فيه لا تنتهي إلاّ بالقبض، فكان التّوكيل بها توكيلاً بالقبض. المسألة الثّالثة: ولاية العدل في قبض المرهون: 19 - إذا اتّفق الرّاهن والمرتهن على أن يجعل المرهون في يد عدل، فهل يكون للعدل ولاية قبضه ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة وهو أنّ للعدل أن يقبض المرهون، ويكون قبضه بمنزلة قبض المرتهن، ولا فرق، لأنّ كلاً من الرّاهن والمرتهن قد لا يثق بصاحبه، فاحتيج إلى العدل، وكما يتولّى العدل الحفظ فإنّه يتولّى القبض، وبهذا قال الحسن والشّعبيّ وعمرو بن دينار والثّوريّ وإسحاق وأبو ثور وعبد اللّه بن المبارك. ولأنّ العدل نائب عن صاحب الحقّ، فكان قبضه بمنزلة قبض الوكيل في سائر العقود. ثمّ إنّ ممّا يدلّ على أنّ يد العدل كيد المرتهن، وأنّه وكيله بالقبض: أنّ للمرتهن متى شاء أن يفسخ الرّهن ويبطل يد العدل ويردّه إلى الرّاهن، وليس للرّاهن إبطال يد العدل، فدلّ ذلك على أنّ العدل وكيل للمرتهن. والثّاني: لابن شبرمة والأوزاعيّ وابن أبي ليلى وقتادة والحكم والحارث العكليّ: وهو أنّه ليس للعدل أن يقبضه، وإن قبضه فلا يكون القبض معتبراً، قال القرطبيّ: ورأوا ذلك تعبّداً. الحالة الثّانية: ولاية النّائب في القبض بتولية الشّارع: 20 - ولاية النّائب في القبض بتولية الشّارع هي ولاية من يلي مال المحجور في قبض ما يستحقّه المحجور، وهذه الولاية ليست بتولية المستحقّ، لانتفاء أهليّته، وإنّما هي بتولية الشّارع باتّفاق الفقهاء. وقد روى الشّافعيّ والبيهقيّ عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه أنّه يرى أنّ الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغاراً. وقال الحنفيّة: ومن ذلك ولاية من يعول الصّغير ويكفله في قبض ما يوهب إليه، سواء أكان الواهب هو أو غيره، وسواء أكان قريباً أم غير قريب. وقال ابن جزيّ: ويحوز للمحجور وصيّه، ويحوز الوالد لولده الحرّ الصّغير ما وهبه له هو ما عدا الدّنانير والدّراهم، وما وهبه له غيره مطلقاً. 21 - ويلحق بهذه الحالة في الحكم ولاية الشّخص في قبض اللّقطة، ومال اللّقيط، والثّوب الّذي ألقته الرّيح في داره، وحقّه إذا ظفر به، وولاية الحاكم في قبض أموال الغائبين والمحبوسين الّذين لا يقدرون على حفظها لتحفظ لهم، وولايته في قبض المال المودع إذا مات المودع والمودَع وورثة المودع غائبون، وولايته في قبض أموال المصالح العامّة والزّكوات، وكذا ولاية المضطرّ أن يقبض من طعام الأجانب بغير إذنهم ما يدفع به ضرورته. وممّا يتعلّق بولاية القبض للغير ما يأتي:
22 - فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ الزّوجة إذا كانت صغيرةً فولاية قبض مهرها لمن ينظر في مالها من الأولياء، سواء أكانت بكراً أم ثيّباً، ومتى قبضه برئت ذمّة الزّوج منه، فليس للزّوجة مطالبته به ثانيةً ولو بعد البلوغ، بل تأخذه ممّن قبضه من زوجها، لأنّ الزّوج قد دفعه لمن له الولاية شرعاً في قبضه، فيكون هذا الدّفع صحيحاً معتبراً تبرأ به ذمّته، ومتى برئت ذمّة شخص من دين، فلا يعود مديناً به، إذ السّاقط لا يعود. أمّا إذا كانت الزّوجة بالغةً رشيدةً: فإمّا أن تكون ثيّباً وإمّا أن تكون بكراً، فإن كانت ثيّباً، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ لها أن تقبض مهرها بنفسها بدون معارضة لها من أحد، لأنّ الولاية على أموالها ثابتة لها في هذه الحالة، فإن شاءت تولّت هي قبض المهر بنفسها، وإن شاءت وكّلت من تختاره في قبض مهرها، وليس لأحد قبضه إلاّ بتوكيل صريح منها. أمّا إذا كانت بكراً، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: أحدهما: للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة: وهو أنّه ليس لأحد أن يقبض مهرها، بل تقبضه هي بنفسها، أو توكّل من يقبضه لها، لأنّها رشيدة تلي مالها، فليس لغيرها أن يقبض صداقها أو أيّ عوض تملكه بغير إذنها، كثمن مبيعها وأجرة دارها ونحو ذلك. والثّاني: للحنفيّة: وهو أنّ لوليّها أن يقبض مهرها إذا لم يحصل منها نهي صريح عن قبضه. فإن نهته فلا يملك القبض، ولا يبرأ الزّوج إن سلّمه له، والفرق بين البكر والثّيّب أنّ البكر تستحيي من قبض صداقها بخلاف الثّيّب، فيقوم وليّها مقامها، ولأنّ العادة جارية على ذلك، فكان مأذوناً بالقبض من جهتها بدلالة العرف - بخلاف الثّيّب - والإذن العرفيّ كالإذن اللّفظيّ.
23 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المستعير ينقضي التزامه بردّ العاريّة، ويبرأ من ضمانها إذا سلّمها لصاحبها أو وكيله بقبضها. غير أنّ المستعير لو قام بردّها إلى أحد من عيال المعير كزوجته وولده ونحوهم فقد اختلف الفقهاء في براءة ذمّته على قولين: أحدهما: للشّافعيّة: وهو أنّه لا تبرأ ذمّة المستعير بردّ العاريّة وتسليمها إلى زوجة المعير أو ولده.. ولو ضاعت العاريّة بعد قبضهما فالمعير بالخيار: إن شاء ضمّن المستعير، وإن شاء غرّم الزّوجة أو الولد، فإن غرّم المستعير، رجع عليهما، وإن غرّمهما، لم يرجعا على المستعير. والثّاني: للحنابلة: وهو أنّ المستعير إذا ردّ العاريّة إلى عيال المعير الّذين لا عادة لهم بقبض ماله لم يبرأ من الضّمان، لأنّه لم يردّها إلى مالكها ولا نائبه في قبضها، فكأنّه سلّمها لأجنبيّ، فلا يبرأ، أمّا إذا ردّها إلى من جرت عادته بالرّدّ إليه كزوجة متصرّفة في ماله وخازن إذا ردّ إليهما ما جرت عادتهما بقبضه، فيصحّ الرّدّ وينقضي التزام المستعير وتبرأ ذمّته من الضّمان، لأنّه مأذون في ذلك عرفاً، أشبه ما لو أذن له فيه نطقاً. الشّرط الثّالث: الإذن: 24 - اختلف الفقهاء في اشتراط الإذن لصحّة القبض على ثلاثة مذاهب: فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى التّفريق بين ما إذا كان للمقبوض منه الحقّ في حبسه كالمرهون في يد الرّاهن، والموهوب في يد الواهب، والمبيع في يد البائع بثمن حالّ قبل نقد الثّمن، وبين ما إذا لم يكن له الحقّ في حبسه كالمبيع في يد البائع بعد نقد المشتري ثمنه، أو قبله إن كان الثّمن مؤجّلاً، فذهبوا في الحالة الأولى إلى أنّه يشترط في صحّة القبض أن يكون بإذن من له الحقّ في حبسه، وذهبوا في الحالة الثّانية إلى أنّه لا يشترط، وصحّحوا القبض بدون إذنه. وعلّلوا اشتراط الإذن في الأولى بأنّ من كان له الحقّ في حبس الشّيء، فلا يجوز إسقاط حقّه بغير إذنه، بخلاف من لم يكن له الحقّ في حبسه، وتعلّق حقّ الغير به، واستحقّ قبضه، فله أن يقبضه سواء أذن المقبوض منه أم لم يأذن. وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط الإذن لصحّة القبض في الرّهن، ولا يشترط في سائر العطايا كالهبة والصّدقة والوقف، لبقاء ملك الرّاهن في الرّهن دونها. وذهب الحنابلة إلى أنّه يشترط الإذن لصحّة القبض في الرّهن وفي العطايا كالهبة والصّدقة. فإن تعدّى المرتهن أو الموهوب أو المتصدّق عليه فقبضه بغير إذن الرّاهن أو الواهب أو المتصدّق، فسد القبض، ولم تترتّب عليه أحكامه. نوعا الإذن: 25 - الإذن عند الفقهاء نوعان: صريح، ودلالة، أمّا الصّريح، فنحو أن يقول: اقبض، أو أذنت لك بالقبض، أو رضيت به، وما يجري هذا المجرى، وأمّا الدّلالة، فنحو أن يقبض الموهوب الهبة بحضرة الواهب فيسكت ولا ينهاه، وكسكوت البائع حين يرى المشتري يقبض المبيع، وكسكوت الرّاهن عند قبض المرتهن العين المرهونة أمامه. الرّجوع في الإذن: 26 - حيثما اشترط الإذن لصحّة القبض فقد نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ لمن أذن بالقبض الرّجوع في الإذن قبل القبض، فإن رجع قبله بطل الإذن، وإن رجع عن الإذن بعد القبض لم يؤثّر رجوعه. أمّا بطلان الإذن برجوعه قبل القبض، فلقوّة حقّه في العين ببقاء يده عليها، ولأنّه لمّا كان له أن لا يأذن بقبضها، كان له أن يرجع عن إذنه قبل حصول القبض، وأمّا عدم تأثير رجوعه على صحّة الإذن بعد القبض، فلأنّ من سعى في نقض ما تمّ من قبله فسعيه مردود عليه. اشتراط بقاء أهليّة الآذن حتّى يحصل القبض: 27 - نصّ الشّافعيّة على بطلان الإذن بالقبض إذا جنّ الآذن أو أغمي عليه أو حجر عليه قبل القبض. ووافقهم الحنابلة على أنّه لو مات الآذن أو المأذون له قبل القبض، بطل الإذن بالقبض. الشّرط الرّابع: أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره: 28 - اختلف الفقهاء في اشتراط كون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره على ثلاثة أقوال: أحدها: للحنفيّة والشّافعيّة وهو أنّه يشترط لصحّة القبض أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره، فلو كان المبيع داراً مشغولةً بمتاع للبائع، فلا يصحّ القبض حتّى يسلّمها فارغةً. والثّاني: للمالكيّة وهو أنّه لا يشترط في صحّة القبض أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره إلاّ في دار السّكنى، فيشترط لصحّة قبضها إخلاؤها. والثّالث: للحنابلة وهو أنّه لا يشترط ذلك، ويصحّ قبض الشّيء المشغول بحقّ غيره، فلو خلّى البائع بين المشتري وبين الدّار المباعة، وفيها متاع للبائع صحّ القبض، لأنّ اتّصالها بملك البائع لا يمنع صحّة القبض. الشّرط الخامس: أن يكون المقبوض منفصلاً متميّزاً: 29 - هذا الشّرط قال به الحنفيّة، وهو أن يكون المقبوض منفصلاً متميّزاً عن حقّ الغير، فإن كان متّصلاً به اتّصال الأجزاء، فلا يصحّ القبض. وعلى هذا: فلو رهن أو وهب الأرض بدون البناء أو بدون الزّرع والشّجر، أو الزّرع والشّجر بدون الأرض، أو الشّجر بدون الثّمر، أو الثّمر بدون الشّجر، فلا يصحّ القبض ولو سلّم الكلّ، لأنّ المرهون أو الموهوب المراد قبضه متّصل بغيره اتّصال الأجزاء، وهذا يمنع من صحّة القبض. وسبب اشتراطهم هذا الشّرط أنّ اتّصال الشّيء بحقّ الغير يمنع من التّمكّن منه ويحول دونه، ومن أجل ذلك لا يصحّ قبضه وهو بهذه الحال. الشّرط السّادس: أن لا يكون المقبوض حصّةً شائعةً: 30 - اختلف الفقهاء في اشتراط عدم الشّيوع لصحّة القبض على قولين: أحدهما للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: وهو أنّه يصحّ قبض الحصّة الشّائعة، لأنّ الشّيوع لا ينافي صحّة القبض، إذ لو كان القبض غير متحقّق في الحصّة الشّائعة لعدم تمكّن كلّ واحد من الشّريكين من التّصرّف في حصّته، لكان كلّ شريكين في ملك شائع غير قابضين له، ولو كانا غير قابضين له لكان مهملاً لا يد لأحد عليه، وهذا أمر ينكره الشّرع والعيان، أمّا الشّرع، فلأنّه جعل تصرّفهما فيه تصرّف ذي الملك في ملكه، وأمّا العيان، فلكونه عند كلّ واحد منهما مدّةً يتّفقان عليها، أو عندهما معاً ينتفعان به ويستغلانه. غير أنّ جمهور الفقهاء مع اتّفاقهم على صحّة قبض الحصّة الشّائعة، وعدم منافاة الشّيوع لصحّة القبض اختلفوا في كيفيّة قبض الحصّة الشّائعة: أ - فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ قبض الحصّة الشّائعة يكون بقبض الكلّ. فإذا قبضه كان ما عدا حصّته أمانةً في يده لشريكه، لأنّ قبض الشّيء يعني وضع اليد عليه والتّمكّن منه، وفي قبضه للكلّ وضع ليده على حصّته وتمكّن منها. قالوا: ولا يشترط لذلك إذن الشّريك إذا كان الشّيء ممّا يقبض بالتّخلية. أمّا إذا كان ممّا يقبض بالنّقل والتّحويل، فيشترط إذن الشّريك، لأنّ قبضه بنقله، ونقله لا يتأتّى إلاّ بنقل حصّة شريكه مع حصّته، والتّصرّف في مال الغير بدون إذنه لا يجوز. فإن أبى الشّريك الإذن، فلمستحقّ قبضه أن يوكّل شريكه في قبض حصّته، فيصحّ القبض، فإن لم يوكّله قبض له الحاكم، أو نصب من يقبض لهما، فينقله ليحصل القبض، لأنّه لا ضرر على الشّريك في ذلك، ويتمّ به عقد شريكه. ب - وقال المالكيّة: قبض الحصّة الشّائعة يكون بوضع يده عليها كما كان صاحبها يضع يده عليها مع شريكه، إلاّ في المرهون الّذي يكون الشّريك فيه الرّاهن، فيشترط قبض الكلّ كي لا تجتمع يد الرّاهن ويد المرتهن معاً، سواء أذن الشّريك الرّاهن أو لم يأذن، فلو وهب رجل نصف داره، وهو ساكن فيها، فدخل الموهوب له فساكنه فيها، وصار حائزاً بالسّكنى والارتفاق بمنافع الدّار، والواهب معه في ذلك على حسب ما يفعله الشّريكان في السّكنى، فذلك قبض تامّ، وكذلك كلّ من وهب جزءاً من مال أو دار، وتولّى احتياز ذلك مع واهبه، وشاركه في الاغتلال والارتفاق، فهو قبض. لكن لو رهن شخص نصف داره شائعاً لم يتمّ القبض إلاّ بقبض المرتهن جميعها لئلاّ تجول يد الرّاهن فيها، أمّا لو كان النّصف غير المرهون لغير الرّاهن فيحصل القبض بحلوله في حصّة الرّاهن مع الشّريك في السّكنى والارتفاق. والثّاني للحنفيّة، وهو أنّه يشترط في صحّة القبض ألا يكون المقبوض حصّةً شائعةً، وذلك لأنّ معنى القبض إثبات اليد والتّمكّن من التّصرّف في الشّيء المقبوض، وتحقّق ذلك في الجزء الشّائع وحده لا يتصوّر، فإنّ سكنى بعض الدّار شائعاً ولبس بعض الثّوب شائعاً محال، وإن قابضه لا يتمكّن من التّصرّف فيه ولو حاز الكلّ، نظراً لتعلّق حقّ الشّريك به. ما يحلّ محلّ القبض: الشّيء المستحقّ قبضه بالعقد، إمّا أن يكون بيد الشّخص قبل أن يستحقّه بالعقد، وإمّا أن يكون بيد صاحبه. الحالة الأولى: 31 - إن كان المقبوض بيد الشّخص قبل أن يستحقّ قبضه بالعقد، كما لو باع شيئاً أو وهبه أو رهنه عند غاصب أو مستعير أو مودع أو مستأجر أو غيره، فهل ينوب القبض السّابق على العقد عن القبض الّذي يقتضيه ذلك العقد ويقوم مقامه أم لا ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: للمالكيّة والحنابلة: وهو أنّه ينوب القبض السّابق مناب القبض المستحقّ بالعقد مطلقاً سواء أكانت يده عليه يد ضمان أم يد أمانة، وسواء أكان القبض المستحقّ قبض أمانة أم قبض ضمان، ولا يشترط الإذن ولا مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض. أمّا نيابته مناب القبض المستحقّ بالعقد، فلأنّ استدامة القبض قبض حقيقةً، لوجود الحيازة مع التّمكّن من التّصرّف، فقد وجد القبض المستحقّ، ولا دليل على أنّه ينبغي وقوعه ابتداءً بعد العقد. وأمّا عدم اشتراط كون القبضين متماثلين أو كون القبض السّابق أقوى، بما ينشأ عنه من ضمان اليد، حتّى ينوب عن القبض المستحقّ بالعقد، فلأنّ المراد بالقبض في العقد: إثبات اليد والتّمكّن من التّصرّف في المقبوض، فإذا وجد هذا الأمر، وجد القبض، أمّا ما ينشأ عنه من كون المقبوض مضموناً أو أمانةً في يد القابض، فليس لذلك أيّة علاقة أو تأثير في حقيقة القبض. وأمّا عدم الحاجة للإذن، فلأنّ إقراره له في يده بمنزلة إذنه في القبض، كما أنّ إجراءه العقد مع كون المال في يده يكشف عن رضاه بالقبض، فاستغني عن الإذن المشترط في الابتداء، إذ يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء. وأمّا عدم الحاجة إلى مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض، فلأنّ مضيّ هذا الزّمان ليس من توابع القبض، وليس له مدخل في حقيقته، نعم لو كان القبض متأخّراً عن العقد لاعتبر مضيّ الزّمان الّذي يمكن فيه القبض، لضرورة امتناع حصول القبض بدونه، أمّا مع كونه سابقاً للعقد فلا. القول الثّاني: للحنفيّة: وهو أنّ الأصل في ذلك أنّ القبض الموجود وقت العقد، إذا كان مثل المستحقّ بالعقد، فإنّه ينوب منابه، يعني أن يكون كلاهما قبض أمانة أو قبض ضمان، لأنّه إذا كان مثله أمكن تحقيق التّناوب، لأنّ المتماثلين غير أن ينوب كلّ واحد منهما مناب صاحبه ويسدّ مسدّه، وقد وجد القبض المحتاج إليه. أمّا إذا اختلف القبضان، بأن كان أحدهما قبض أمانة، والآخر قبض ضمان، فينظر: إن كان القبض السّابق أقوى من المستحقّ، بأن كان السّابق قبض ضمان والمستحقّ قبض أمانة، فينوب عنه، لأنّ به يوجد القبض المستحقّ وزيادة، وإن كان دونه، فلا ينوب عنه، وذلك لانعدام القبض المحتاج إليه، إذ لم يوجد فيه إلاّ بعض المستحقّ، فلا ينوب عن كلّه. وبيان ذلك: أنّ الشّيء إذا كان في يد المشتري بغصب أو مقبوضاً بعقد فاسد، فاشتراه من المالك بعقد صحيح، فينوب القبض الأوّل عن الثّاني، حتّى لو هلك الشّيء قبل أن يذهب المشتري إلى بيته، ويصل إليه، أو يتمكّن من أخذه، كان الهلاك عليه، لتماثل القبضين من حيث كون كلّ منهما يوجب كون المقبوض مضموناً بنفسه. وكذا لو كان الشّيء في يده وديعةً أو عاريّةً فوهبه منه مالكه، فلا يحتاج إلى قبض آخر، وينوب القبض الأوّل عن الثّاني، لتماثلهما من حيث كونهما أمانةً. ولو كان الشّيء في يده بغصب أو بعقد فاسد، فوهبه المالك منه، فكذلك ينوب ذلك عن قبض الهبة، لوجود المستحقّ بالعقد، وهو أصل القبض، وزيادة ضمان. أمّا إذا كان المبيع في يد المشتري بعاريّة أو وديعة أو رهن، فلا ينوب القبض الأوّل عن الثّاني، ولا يصير المشتري قابضاً بمجرّد العقد، لأنّ القبض السّابق قبض أمانة، فلا يقوم مقام قبض الضّمان في البيع، لعدم وجود القبض المحتاج إليه. القول الثّالث: للشّافعيّة: وهو أنّه ينوب القبض السّابق مناب القبض المستحقّ بالعقد، سواء أكانت يد القابض السّابقة بجهة ضمان أم بجهة أمانة، وسواء أكان القبض المستحقّ قبض أمانة أم قبض ضمان، غير أنّه يشترط لصحّة ذلك أمران: أحدهما: الإذن من صاحبه في الأظهر إن كان له في الأصل الحقّ في حبسه، كالمرهون، والمبيع إذا كان الثّمن حالاً، ولم يوفه، أمّا إذا لم يكن له هذا الحقّ كالمبيع بثمن مؤجّل، أو حالّ بعد نقد ثمنه، فلا يشترط عند ذلك الإذن. وسبب اشتراط الإذن من مستحقّ حبسه في الأصل، هو عدم جواز إسقاط حقّه بغير إذنه، كما لو كانت العين في يده. والثّاني: مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض، إذا كان الشّيء غائباً عن مجلس العقد، لأنّه لو لم يكن في يده، لاحتاج إلى مضيّ هذا الزّمان ليحوزه ويتمكّن منه، ولأنّا جعلنا دوام اليد كابتداء القبض، فلا أقلّ من مضيّ زمان يتصوّر فيه ابتداء القبض، ولكن لا يشترط ذهابه ومصيره إليه فعلاً. ويعتبر ابتداء زمان إمكان القبض، من وقت الإذن فيه، لا من وقت العقد. الحالة الثّانية: 32 - إذا كان الشّيء بيد صاحبه، كالمبيع في يد بائعه، أو الموهوب في يد واهبه، فقد فرّق الفقهاء - في قضيّة ما ينوب مناب القبض - بين حالة المبيع في يد البائع، وبين حالة الموهوب في يد الواهب، وبيان ذلك: أ - أنّ المبيع إذا كان بيد البائع، فللفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: للحنفيّة: وهو أن ينوب مناب قبض المبيع من يد بائعه، أن يتصرّف فيه المشتري بإتلاف أو تعييب أو تغيير صورة أو استعمال، لأنّ القبض يكون بإثبات اليد والتّمكين من التّصرّف، والإتلاف والتّعييب وتغيير الصّورة والاستعمال تصرّف فيه حقيقةً، فكان قبضاً من باب أولى، لأنّ التّمكين من التّصرّف دون حقيقة التّصرّف، كما أنّ صدور هذه التّصرّفات من المشتري ينطوي على إثبات اليد فعلاً، إذ لا يتصوّر صدورها منه مع تخلّف هذا المعنى، فكانت تلك التّصرّفات بمنزلة القبض ضرورةً. ومثل ذلك في الحكم ما لو فعل البائع شيئاً من ذلك بأمر المشتري، لأنّ فعله بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه. ولو أعار المشتري المبيع أو أودعه أجنبيّاً، صار بذلك قابضاً لأنّه بالإعارة والإيداع أثبت يد النّيابة لغيره فيه، فصار قابضاً، وكذا لو وهبه أجنبيّاً، فقبضه الموهوب. أمّا إذا أعاره المشتري للبائع، أو أودعه إيّاه، أو آجره إيّاه لم يكن شيء من ذلك قبضاً، لأنّ هذه التّصرّفات لا تصحّ من المشتري، لأنّ يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يتصوّر إثبات يد النّيابة له بهذه التّصرّفات، فلم تصحّ، والتحقت بالعدم. والثّاني: للشّافعيّة: وهو أنّ المشتري إذا أتلف المبيع حسّاً أو شرعاً قبل قبضه، كان إتلافه قبضاً إن علم أنّه يتلف المبيع، أمّا إذا لم يعلم فوجهان، والأصحّ اعتباره قبضاً. وإذا أتلفت الزّوجة الصّداق، وهو بيد الزّوج، صارت بذلك قابضةً، وبرئ الزّوج. والثّالث: للحنابلة: وهو أنّ المشتري إذا أتلف المبيع، وهو في يد البائع، فيعتبر ذلك قبضاً له، ويستقرّ عليه الثّمن، لأنّه ماله وقد أتلفه، سواء أكان الإتلاف عن عمد أم خطأ، ويكون على المشتري أن ينقد الثّمن للبائع إن لم يكن دفعه، وإن كان دفعه، فلا رجوع له به. ب - أمّا إذا كانت العين الموهوبة بيد الواهب، فقال الشّافعيّة: لا يعتبر إتلاف الموهوب للعين الموهوبة قبضاً، لعدم استحقاقه القبض بدون إذن الواهب. وقال الحنابلة: إذا أتلف المتّهب الموهوب، وهو في يد الواهب، فإن كان ذلك بإذن الواهب، اعتبر قبضاً وإلاّ فلا.
33 - دلّت النّصوص والقواعد العامّة في الشّريعة على اشتراط القبض في كثير من العقود، وإن كان ذلك الاشتراط مختلفاً في مداه بين عقد وآخر، وبين رأي فقيه أو مذهب وبين رأي غيره من الفقهاء والمجتهدين. فتارةً يكون القبض شرطاً في صحّة العقد، بحيث يبطل العقد إذا تفرّق العاقدان قبله، وتارةً يكون شرطاً في انتقال ملكيّة محلّ العقد واستقرارها، كما أنّه أحياناً يكون شرطاً في لزوم العقد، بحيث يكون جائزاً قبله. وبيان ذلك فيما يأتي: أ - العقود الّتي يشترط القبض فيها لنقل الملكيّة: العقود الّتي يشترط - في الجملة - القبض لنقل ملكيّة محلّ العقد فيها خمسة: أوّلاً: الهبة: 34 - اختلف الفقهاء في اشتراط القبض لنقل ملكيّة العين الموهوبة إلى الموهوب على قولين: أحدهما: للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة: وهو أنّه يشترط القبض لانتقال الملكيّة إلى الموهوب، وأنّ الهبة لا يملكها الموهوب إلاّ بقبضها. واشترط الشّافعيّة إذن الواهب في القبض. الثّاني: للمالكيّة وابن أبي ليلى: وهو أنّه لا يشترط القبض لانتقال الملكيّة إلى الموهوب بل تثبت له بالعقد وعلى الواهب إقباضه وفاءً بالعقد، لقوله تعالى: { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } حتّى إنّ المالكيّة نصّوا على إجبار الواهب على تسليم الموهوب إن امتنع. واستدلّوا على عدم اشتراط القبض في الهبة بالقياس على البيع، حيث إنّ المشتري يملك ما اشتراه بالعقد، ولو لم يقبضه. كما استدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنّه أهدى إلى النّجاشيّ أواقاً من مسك، ثمّ قال لأمّ سلمة: إنّي لا أراه إلاّ قد مات، ولا أرى الهديّة الّتي أهديت إليه إلاّ ستردّ، فإذا ردّت إليّ، فهو لك أم لكم، فكان كما قال» فدلّ ذلك على أنّ الهديّة لا تملك إلاّ بالقبض. وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: إنّ أبا بكر الصّدّيق نحلها جادّ عشرين وسقاً من ماله بالغابة، فلمّا حضرته الوفاة، قال: واللّه يا بنيّة ما من النّاس أحد أحبّ إليّ غنىً بعدي منك، ولا أعزّ عليّ فقراً بعدي منك، وإنّي كنت نحلتك جادّ عشرين وسقاً، فلو كنت جَدَدْتيه واحتَزْتِيه كان لك ذلك، وإنّما هو اليوم مال وارث، وإنّما هما أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب اللّه تعالى، قالت عائشة: يا أبت، واللّه لو كان كذا وكذا لتركته، وإنّما هي أسماء، فمن الأخرى ؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة، أراها جاريةً، قالوا: فلولا توقّف الملك في الموهوب على القبض لما قال إنّه مال وارث. وبما روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قضى في الأنحال: أنّ ما قبض منها فهو جائز، وما لم يقبض فهو ميراث، وروي مثل ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عبّاس وأنس وعائشة رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم في الصّحابة مخالف فكان إجماعاً، ولأنّ انتفاء العوض في الهبة يضعّف من سببيّة العقد لإضافة الملك للموهوب، فمن أجل ذلك يتأخّر الملك إلى أن يتقوّى العقد بالقبض. ثانياً: الوقف: 35 - اختلف الفقهاء في اشتراط القبض لتمام الوقف: فذهب الشّافعيّة في المذهب عندهم، والحنابلة في الصّحيح من المذهب، أبو يوسف، إلى أنّ الوقف إذا صحّ زال به ملك الواقف عنه، ولا يشترط فيه القبض ويرى المالكيّة، وأحمد ابن حنبل في رواية عنه، ومحمّد بن الحسن، وابن أبي ليلى، اشتراط القبض في الجملة لتمام الوقف وزوال ملكيّة الوقف عن الواقف. وأمّا عند أبي حنيفة، فإنّ العين الموقوفة باقية على ملك الواقف حقيقةً، ولا يزول ملكه عنه إلاّ بحكم الحاكم أو يعلّقه بموته. وقال الحنفيّة: إن بنى شخص سقايةً للمسلمين، أو خاناً ليسكنه أبناء السّبيل، أو رباطاً للمجاهدين، أو خلّى أرضاً مقبرةً للمسلمين، أو بنى مسجداً للمصلّين، زال ملكه بقوله عند أبي يوسف، وقال محمّد: إذا استقى النّاس من السّقاية وسكنوا الخان والرّباط ودفنوا في المقبرة وصلّى في المسجد مسلم زال ملكه عن الموقوف، ولا يزال ملكه عند أبي حنيفة حتّى يحكم به الحاكم. وللتّفصيل: (ر: وقف). ثالثاً: القرض: 36 - اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض في القرض لنقل الملكيّة إلى المستقرض على ثلاثة أقوال: أحدها: ذهب أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة في القول الأصحّ والحنابلة وغيرهم، إلى أنّ المقترض إنّما يملك المال المقرض بالقبض. واستدلّوا بأنّ المستقرض بنفس القبض صار بسبيل من التّصرّف في القرض من غير إذن المقرض بيعاً وهبةً وصدقةً وسائر التّصرّفات، وإذا تصرّف فيه نفذ تصرّفه، ولا يتوقّف على إجازة المقرض، وتلك أمارات الملك، إذ لو لم يملكه لما جاز له التّصرّف فيه، وبأنّ القرض عقد اجتمع فيه جانب المعاوضة وجانب التّبرّع، أمّا المعاوضة: فلأنّ المستقرض يجب عليه ردّ بدل مماثل عوضاً عمّا استقرضه، وأمّا التّبرّع: فلأنّه ينطوي على تبرّع من المقرض للمستقرض بالانتفاع بالمال المستقرض بسائر التّصرّفات، غير أنّ جانب التّبرّع في هذا العقد أرجح، لأنّ غايته وثمرته إنّما هي بذل منافع المال المقرض للمستقرض مجّاناً، ألا ترى أنّه لا يقابله عوض في الحال، ولا يملكه من لا يملك التّبرّع، ولهذا كان كباقي التّبرّعات من هبات وصدقات، فتنتقل الملكيّة فيه بالقبض، لا بمجرّد العقد، ولا بالتّصرّف. والثّاني: للمالكيّة: وهو أنّ المقترض يملك المال المقرض ملكاً تامّاً بالعقد وإن لم يقبضه، ويصير مالاً من أمواله، ويقضى له به. والثّالث: لأبي يوسف من الحنفيّة، وللشّافعيّة في قول عندهم: وهو أنّ المقترض إنّما يملك المال المقرض بالتّصرّف، فإذا تصرّف فيه تبيّن ثبوت ملكه قبله، والمراد بالتّصرّف: كلّ عمل يزيل الملك، كالبيع والهبة والإعتاق والإتلاف، ولا يكفي الرّهن والتّزويج والإجارة وطحن الحنطة وخبز الدّقيق وذبح الشّاة ونحو ذلك. وتظهر ثمرة الخلاف بين ما ذهب إليه المالكيّة، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء فيما إذا هلكت العين المقرضة بعد العقد وقبل القبض، ففي هذه الحالة يكون ضمانها عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على المقرِض، ويكون هلاكها في عهدته، لأنّها لم تزل في ملكه، ولم يملكها المقترض بعد، فلا تنشغل ذمّته بعوضها أصلاً، بينما يكون ضمانها عند المالكيّة على المقترض، وهو الّذي يتحمّل تبعة هلاكها، وعليه ردّ بدلها لأنّها هلكت في ملكه. كما تظهر ثمرة الخلاف بين ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وما ذهب إليه أبو يوسف والشّافعيّة في قول، فيما إذا استقرض شخص من رجل كرّاً من حنطة وقبضه، ثمّ اشترى ذلك الكرّ بعينه من المقرض، فإنّه لا يجوز ذلك على قول الجمهور، لأنّ المقترض ملكه بنفس القبض، فيصير بعقد الشّراء التّالي مشترياً ملك نفسه، أمّا على القول الآخر فالكرّ باق على ملك المقرض، ويصير المستقرض مشترياً ملك غيره، فيصحّ. رابعاً: العاريّة: 37 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ منافع العين المعارة لا تنتقل إلى ملك المستعير، لا بالقبض ولا بغيره. لأنّ العاريّة عندهم تفيد إباحة المنافع للمستعير لا تمليكها. وذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط القبض لانتقال منافع العين المعارة إلى ملك المستعير، لأنّ الإعارة تبرّع بتمليك منافع الشّيء المعار، فلا تملك إلاّ بالقبض، كالهبة. (ر: إعارة ف 14). خامساً: المعاوضات الفاسدة: 38 - اختلف الفقهاء في كون القبض ناقلاً للملكيّة في عقود المعاوضات الماليّة الفاسدة أو غير ناقل: فذهب جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ العقد الفاسد كالباطل، لا ينعقد أصلاً، ولا يفيد الملك بتاتاً، سواء قبض العاقد البدل المعقود عليه أو لم يقبضه. وذهب الحنفيّة إلى أنّ ملكيّة المعقود عليه تنتقل في عقد المعاوضة الفاسد بقبضه برضا صاحبه، ويكون مضموناً على القابض بقيمته يوم قبضه. العقود الّتي يشترط القبض في صحّتها: أوّلاً: الصّرف: 39 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في صحّة عقد الصّرف التّقابض في البدلين قبل التّفرّق، قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أنّ الصّرف فاسد. واستدلّوا على ذلك بما روى عبادة بن الصّامت رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد». وبما روى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما أنّه قال: «لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الذّهب بالورق أحدهما غائب والآخر ناجز، وإن استنظرك حتّى يلج بيته فلا تنظره، إنّي أخاف عليكم الرّماء» أي الرّبا. لهذا إذا تعذّر على المتصارفين التّقابض في المجلس وأرادا الافتراق، لزمهما ديانةً أن يتفاسخا العقد بينهما قبل التّفرّق كي لا يأثما بتأخير العوضين أو أحدهما، لأنّ الشّارع نهى عن هذا العقد إلاّ يداً بيد، وحكم عليه أنّه رباً إلاّ هاء وهاء، فمتى لم يحصل هذا الشّرط حصل المنهيّ عنه، وهو ربا النّساء، وهو حرام، وفي التّفاسخ قبل التّفرّق رفع للعقد، فلا تلزمهما شروطه. لكنّ فريقاً من المالكيّة استثنى من هذا الأصل المتّفق عليه - هو اشتراط التّقابض قبل التّفرّق لصحّة الصّرف - ما لو تفرّقا قبل التّقابض غلبةً، أي بما يغلبان عليه أو أحدهما، كنسيان أو غلط أو سرقة من الصّرّاف ونحو ذلك، وقال الشّيخ عليش: وقد تكون الغلبة بحيلولة سيل أو نار أو عدوّ قبل التّقابض وقالوا بعدم بطلان الصّرف في هذه الحالة. ثانياً: بيع الأموال الرّبويّة ببعضها: 40 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في صحّة بيع الأموال الرّبويّة بجنسها الحلول وانتفاء النّسيئة، وكذا إذا بيعت بغير جنسها، وكان المالان الرّبويّان تجمعهما علّة واحدة، إلاّ أن يكون أحد العوضين ثمناً والآخر مثمّناً، كبيع الموزونات بالدّراهم والدّنانير. واستدلّوا على ذلك بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد». غير أنّ الفقهاء مع اتّفاقهم هذا على اشتراط الحلول وانتفاء النّسيئة، اختلفوا في اشتراط التّقابض قبل التّفرّق من مجلس العقد في بيع جميع الأموال الرّبويّة ببعضها على قولين: أحدهما: للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو أنّه يشترط التّقابض قبل التّفرّق من المجلس في الصّرف وغيره، فلو تفرّقا قبل التّقابض بطل العقد، وذلك لأنّ النّهي عن النّسيئة ثبت في الصّرف وغيره من بيع الرّبويّات ببعضها، وتحريم النّساء ووجوب التّقابض متلازمان، إذ من المحال أن يشترط الشّارع انتفاء الأجل في بيع جميع الأموال الرّبويّة، ويكون تأجيل التّقابض في بعضها جائزاً، ولا يخفى أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: «يداً بيد وهاء وهاء» في شأن بيع الأموال الرّبويّة السّتّة بالكيفيّة المبيّنة في الحديث إنّما يفهم منه اشتراط التّقابض فيها جميعاً. الثّاني: للحنفيّة، وهو أنّه لا يشترط التّقابض قبل التّفرّق إلاّ في الصّرف، أمّا في غيره - كبيع حنطة بشعير أو تمر أو حنطة - فيشترط لصحّته التّعيين دون التّقابض، لأنّ البدل في غير الصّرف يتعيّن بمجرّد التّعيين قبل القبض، ويتمكّن مشتريه بمجرّد التّعيّن من التّصرّف فيه، ولذلك لا يشترط قبضه لصحّة العقد، بخلاف البدل في الصّرف فإنّه لا يتعيّن بدون القبض، إذ القبض شرط في تعيينه، حيث إنّ الأثمان لا تتعيّن مملوكةً إلاّ به، ولذلك كان لكلّ من العاقدين تبديلها بمثلها قبل تسليمها. ثالثاً: السّلم: 41 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة عقد السّلم قبض المسلم إليه رأس المال قبل الافتراق، فإن تفرّقا قبل قبضه فسد العقد. وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط في صحّة السّلم قبض رأس المال قبل تفرّقهما أو بعده بمدّة يسيرة كاليومين والثّلاثة، سواء أكان هذا التّأخير بشرط أم بغير شرط، عملاً بالقاعدة الفقهيّة الكلّيّة " ما قارب الشّيء يعطى حكمه "، فإن تأخّر قبضه أكثر من ذلك بطل العقد. (ر: سلم ف 16 - 19). رابعاً: إجارة الذّمّة: 42 - قسّم جمهور الفقهاء الإجارة باعتبار محلّ تعلّق الحقّ في المنفعة المعقود عليها إلى قسمين: إجارة واردة على العين، وإجارة واردة على الذّمّة. أ - فالإجارة الواردة على العين: يكون الحقّ في المنفعة المعقود عليها متعلّقاً بنفس العين، كما إذا استأجر شخص داراً أو أرضاً أو سيّارةً معيّنةً، أو استأجر شخصاً بعينه لخياطة ثوب أو بناء حائط، ونحو ذلك. وهذا النّوع من الإجارة لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يشترط فيه قبض الأجرة في المجلس لصحّة العقد أو لزومه أو انتقال ملكيّة المنافع فيه، وذلك لأنّ إجارة العين كبيعها - إذ الإجارة بيع للمنفعة في مقابلة عوض معلوم - وبيع العين يصحّ بثمن حالّ ومؤجّل، فكذلك الإجارة. ب - أمّا الإجارة الواردة على الذّمّة: فيكون الحقّ في المنفعة المعقود عليها متعلّقاً بذمّة المؤجّر، كما إذا استأجر دابّةً موصوفةً للرّكوب أو الحمل بأن قال: استأجرت منك دابّةً صفتها كذا لتحملني إلى موضع كذا، أو قال: ألزمت ذمّتك خياطة هذا الثّوب أو بناء جدار صفته كذا، فقبل المؤجّر. وقد اختلف الفقهاء في وجوب تسليم الأجرة فيها في مجلس العقد على أربعة أقوال: الأوّل: للحنفيّة، فالأصل عندهم أنّ الأجر لا يلزم بالعقد ولا يملك، فلا يجب تسليمه به، بل بتعجيله أو شرطه في الإجارة المنجّزة أو الاستيفاء للمنفعة أو تمكّنه منه، وعلى ذلك لا يشترط قبض الأجر عندهم في صحّة الإجارة، قال ابن عابدين: لا يملك الأجر بالعقد، لأنّه وقع على المنفعة، وهي تحدث شيئاً فشيئاً، وشأن البدل أن يكون مقابلاً للمبدل، وحيث لا يمكن استيفاؤها حالاً لا يلزم بدلها حالاً، إلاّ إذا شرطه ولو حكماً، بأن عجّله لأنّه صار ملتزماً له بنفسه وأبطل المساواة الّتي اقتضاها العقد. والثّاني: للمالكيّة، وهو أنّه يجب لصحّة إجارة الذّمّة تعجيل الأجرة، لاستلزام التّأخير تعمير الذّمّتين وبيع الكالئ بالكالئ، وهو منهيّ عنه إلاّ إذا شرع المستأجر باستيفاء المنفعة، كما لو ركب المستأجر الدّابّة الموصوفة في طريقه إلى المكان المشترط أن تحمله إليه، فيجوز عندئذ تأخير الأجرة، لانتفاء بيع المؤخّر بالمؤخّر، حيث إنّ قبض أوائل المنفعة كقبض أواخرها، فارتفع المانع من التّأخير. وقد اعتبر المالكيّة أنّ في حكم تعجيل الأجرة تأخيرها يومين أو ثلاثةً، لأنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه، كما في السّلم، ولا فرق بين عقدها بلفظ الإجارة أو السّلم. والثّالث: للشّافعيّة، وهو أنّه يشترط في صحّة إجارة الذّمّة قبض المؤجّر الأجرة في مجلس العقد، كما اشترط قبض المسلم إليه رأس مال السّلم في المجلس، فإن تفرّقا قبل القبض بطلت الإجارة، لأنّ إجارة الذّمّة سلم في المنافع، فكانت كالسّلم في الأعيان، سواء عقدت بلفظ الإجارة أو السّلم. والرّابع: للحنابلة، وهو أنّ إجارة الموصوف في الذّمّة إذا جرت بلفظ " سلم " أو " سلف " - كأسلمتك هذا الدّينار في منفعة دابّة صفتها كذا وكذا لتحملني إلى مكان كذا، أو في منفعة آدميّ صفته كذا وكذا لبناء حائط صفته كذا مثلاً - وقبل المؤجّر، فإنّه يشترط لصحّة إجارة الذّمّة عندئذ تسليم الأجرة في مجلس العقد، لأنّها بذلك تكون سلماً في المنافع، ولو لم تقبض قبل تفرّق العاقدين لآل الأمر إلى بيع الدّين بالدّين، وهو منهيّ عنه، أمّا إذا لم تجر إجارة الذّمّة بلفظ " سلم " ولا " سلف "، فلا يشترط تعجيل الأجرة في هذه الحالة، لأنّها لا تكون سلماً، فلا يلزم فيها شرطه. خامساً: المضاربة: 43 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة عقد المضاربة تسليم رأس المال إلى العامل، لأنّ المضاربة انعقدت على أن يكون رأس المال من أحد الطّرفين والعمل من الطّرف الآخر، ولا يتحقّق العمل إلاّ بعد خروج رأس المال من يد ربّ المال إلى العامل، وليس المراد بذلك اشتراط تسليم رأس المال إليه حال العقد أو في مجلسه، وإنّما المراد أن يستقلّ العامل باليد عليه والتّصرّف فيه بالتّخلية بينه وبين رأس المال، وعلى ذلك: لو شرط المالك أن يكون المال بيده ليوفّي منه ثمن ما اشتراه العامل فسدت المضاربة. وذهب الحنابلة على الرّاجح عندهم إلى أنّه لا يشترط لصحّة عقد المضاربة قبض العامل لرأس المال، قال البهوتيّ: فتصحّ وإن كان بيد ربّه، لأنّ مورد العقد العمل. سادساً: المزارعة: 44 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط في صحّة المزارعة تسليم الأرض إلى العامل مخلاةً، أي أن توجد التّخلية من صاحب الأرض بين أرضه وبين العامل، حتّى لو شرط في العقد العمل على ربّ الأرض أو شرط عملهما معاً، فلا تصحّ المزارعة لانعدام التّخلية. والتّفصيل في مصطلح: (مزارعة). سابعاً: المساقاة: 45 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه يشترط في صحّة المساقاة تسليم الأشجار إلى العامل، فلو شرط كونها في يد المالك أو مشاركته في اليد لم يصحّ العقد لعدم حصول التّخلية بين الشّجر وبين العامل. والتّفصيل في مصطلح: (مساقاة).
وهي أربعة، بيانها فيما يلي: أوّلاً: الهبة: 46 - اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض للزوم الهبة: فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط القبض في لزوم الهبة، ويكون للواهب قبل القبض الرّجوع فيها، فإذا قبضها الموهوب له لزمت، لكنّ الشّافعيّة قالوا: للأب الرّجوع في هبة ولده، وكذلك لسائر الأصول على المشهور عندهم. غير أنّهم اختلفوا في حكم العقد إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل قبضها. فقال الشّافعيّة: إن مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض لم ينفسخ العقد، لأنّه يئول إلى اللّزوم، ويقوم الوارث مقام مورّثه. وقال الحنابلة: إذا مات الموهوب له قبل القبض بطل العقد، أمّا إذا مات الواهب فلا تبطل الهبة، ويقوم وارثه مقامه في الإقباض أو الرّجوع في الهبة. واستدلّ جمهور الفقهاء على اشتراط القبض في لزوم الهبة بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لأمّ سلمة: «إنّي أهديت إلى النّجاشيّ أواقاً من مسك، وإنّي لا أراه إلاّ قد مات، ولا أرى الهديّة الّتي أهديت إليه إلاّ ستردّ فإذا ردّت إليّ فهو لك أم لكم» وبما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «يقول ابن آدم مالي مالي.. وهل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت» فقد شرط رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الصّدقة الإمضاء، والإمضاء هو الإقباض. وقال الحنفيّة: لا تلزم الهبة بالقبض إلاّ إذا كانت لأصول الواهب أو فروعه أو لأخيه أو لأخته أو أولادهما أو لعمّه وعمّته أو كانت بين الزّوجين حال قيام الزّوجيّة، وللواهب أن يرجع عن هبته في غير الحالات المذكورة برضا الموهوب له أو برجوع الواهب للحاكم فيفسخ الهبة. وذهب المالكيّة: إلى أنّ الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول، لكنّها لا تتمّ ولا تلزم إلاّ بالقبض، ويجبر الواهب على إقباضها ما دام العاقدان على قيد الحياة، فإذا مات الواهب قبل القبض بطلت الهبة، وكانت ميراثاً، أمّا إذا مات الموهوب له قبل القبض فلا تبطل، ويكون لورثته مطالبة الواهب بها، لأنّها صارت حقّاً لمورّثهم قبل موته. ثانياً: الوقف: 47 - اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض في الوقف على ثلاثة أقوال: أحدها: ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة - وقوله هو المفتى به في المذهب - إلى أنّ الوقف لا يفتقر إلى القبض، بل يلزم ويتمّ بدونه. واستدلّوا بما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أمر عمر بن الخطّاب أن يسبّل ثمرة أرضه ويحبس أصلها» ولم يأمره أن يخرجها من يده إلى يد أحد يحوزها دونه، فدلّ ذلك على أنّ الوقف يتمّ بحبس الأصل وتسبيل الثّمرة دون اشتراط أن يقبضه أحد، ولو كان القبض شرطاً لأمره به، وبقول الشّافعيّ: أخبرني غير واحد من آل عمر وآل عليّ رضي الله عنهم أنّ عمر رضي الله عنه ولي صدقته حتّى مات، وجعلها بعده إلى حفصة رضي الله عنها، وولي عليّ رضي الله عنه صدقته حتّى مات، ووليها بعده الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، وأنّ فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وليت صدقتها حتّى ماتت، وبلغني عن غير واحد من الأنصار أنّه ولي صدقته حتّى مات، وبقياس الوقف على العتق، ذلك أنّ الرّجل إذا وقف أرضه أو داره، فإنّما يملك الموقوف عليه منافعها، ولا يملك من رقبتها شيئاً، لأنّ الواقف أخرجها من ملكه إلى اللّه عزّ وجلّ، فكان ذلك شبيهاً بما أخرجه عن ملكه بالعتق للّه عزّ وجلّ، فكما أنّ العتق يلزم بالقول ولا يحتاج فيه إلى القبض مع القول، فكذلك الوقف لا يحتاج فيه إلى القبض مع القول، ولأنّنا لو أوجبنا القبض فيه، فإنّ القابض يقبض ما لم يملكه بالوقف، فيكون قبضه وعدمه سواءً. والثّاني: لابن أبي ليلى ومحمّد بن الحسن الشّيبانيّ وأحمد في رواية عنه: وهو أنّ الوقف لا يلزم إلاّ بقبضه وإخراج الواقف له عن يده، ويكون القبض بأن يجعل له قيّماً ويسلّمه إليه، وفي المسجد بأن يخلّيه ويصلّي النّاس فيه، وفي المقبرة بدفن شخص واحد فيها فما فوق، واستدلّوا على ذلك بأنّ الوقف تصدّق بالمنافع، والهبات والصّدقات لا تلزم إلاّ بالقبض، فينبغي أن يشترط القبض للزومه. والثّالث: للمالكيّة: وهو أنّه يشترط القبض لتمام الوقف، فإن مات الواقف أو مرض أو أفلس قبل قبض الموقوف بطل الوقف، ويكون القبض في نحو المسجد والطّاحون بالتّخلية بين الموقوف وبين النّاس. ثالثاً: القرض: 48 - اختلف الفقهاء في اشتراط القبض في ملك القرض أو لزومه على أقوال: الأوّل للمالكيّة: وهو أنّه لا يشترط في لزوم عقد القرض أن يقبضه المقترض، بل يلزم بالقول. والثّاني للشّافعيّة، قالوا: يملك بالقبض. والثّالث للحنابلة، قالوا: يلزم بالقبض. رابعاً: الرّهن: 49 - اختلف الفقهاء في اشتراط القبض في لزوم الرّهن: فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على الرّاجح عندهم إلى أنّه يشترط القبض في لزوم الرّهن، وعلى ذلك يكون للرّاهن قبل القبض أن يرجع عنه أو يسلّمه. واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى: { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } حيث إنّ المصدر المقرون بحرف الفاء في جواب الشّرط يراد به الأمر، والأمر بالشّيء الموصوف يقتضي أن يكون ذلك الوصف شرطاً فيه، إذ المشروع بصفة لا يوجد بدون تلك الصّفة، ولأنّ الرّهن عقد تبرّع إذ لا يستوجب الرّاهن بمقابلته على المرتهن شيئاً، ولهذا لا يجبر عليه، فلا بدّ من الإمضاء بعدم الرّجوع، والإمضاء يكون بالقبض. وقالوا: إنّ اللّه عزّ وجلّ وصف الرّهان بكونها مقبوضةً، فيقتضي ذلك أن يكون القبض فيها شرطاً، ولو لزمت بدون القبض لما كان للتّقييد به فائدة. وذهب المالكيّة إلى أنّ الرّهن يلزم بالعقد، لكنّه لا يتمّ إلاّ بالقبض، وللمرتهن حقّ المطالبة بالإقباض، ويجبر الرّاهن عليه. قالوا: أمّا لزومه بالعقد، فلأنّ قوله تعالى: { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } أثبتها رهاناً قبل القبض، وأمّا إلزام الرّاهن بالإقباض، فلأنّ قوله تعالى: { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } دليل على إلزام الرّاهن بتسليم المرهون للمرتهن وفاءً بالعقد. قال الدّسوقيّ: لا خلاف في المذهب أنّ القبض ليس من حقيقة الرّهن ولا شرطاً في صحّته ولا لزومه بل ينعقد ويصحّ ويلزم بمجرّد القول. وذهب بعض الحنابلة إلى أنّ المرهون إذا كان مكيلاً أو موزوناً فلا يلزم رهنه إلاّ بالقبض، وفيما عدا ذلك روايتان عن أحمد، إحداهما: لا يلزم إلاّ بالقبض، والأخرى: يلزم بمجرّد العقد كالبيع.
50 - اختلف الفقهاء في حكم استدامة القبض في الرّهن على ثلاثة أقوال: أحدها: للحنفيّة والشّافعيّة: وهو أنّه لا يشترط استدامة القبض في الرّهن، فلو استرجعه الرّاهن بعاريّة أو وديعة صحّ، لأنّه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة، وللمرتهن الحقّ في استرداده متى شاء، والقاعدة الفقهيّة تقول: " يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء ". والثّاني: للمالكيّة: وهو أنّه يشترط في صحّة الرّهن استدامة القبض، فإذا قبض المرتهن المرهون، ثمّ ردّه إلى الرّاهن بعاريّة أو وديعة أو كراء بطل الرّهن، لأنّ المعنى الّذي لأجله اشترط قبض المرهون في الابتداء هو أن تحصل وثيقة للمرتهن بقبضه، فكانت استدامة القبض شرطاً فيه. والثّالث: للحنابلة: وهو أنّه يشترط في لزوم الرّهن استدامة قبض المرهون، فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الرّاهن أو غيره زال لزوم الرّهن، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض، سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك، فإذا عاد فردّه إليه عاد اللّزوم بحكم العقد السّابق، ولا يحتاج إلى تجديد عقد، لأنّ العقد الأوّل لم يطرأ عليه ما يبطله، أشبه ما لو تراخى القبض عن العقد أوّل مرّة، وإن أزيلت يد المرتهن عنه بغير حقّ كالغصب والسّرقة وإباق العبد وضياع المتاع ونحوه، فلزوم العقد باق، لأنّ يده ثابتة عليه حكماً، فكأنّها لم تزل. واستدلّوا على ذلك بأنّ الرّهن يراد للوثيقة، ليتمكّن من بيعه واستيفاء دينه، فإذا لم يدم في يده زال ذلك المعنى، فكان بقاء اللّزوم منوطاً بدوام القبض.
|