الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)
.القسم الثاني في بيات تقلبات أحواله وفتوحاته في تواريخها: .ذكر حركته إلى مصر في الدفعة الأولى صحبة عمه أسد الدين: سبب ذلك أن شاور وزير المصريين كان قد خرج عليه إنسان يقال له الضرغام وكان يروم منصبه ومكانه فجمع له جموعاً كثيرة لم يكن له بها قبل وغلب عليه وأخرجه من القاهرة وقتل ولده واستولى على المكان وولي الوزارة. وكانت عادة المصريين أنه إذا غلب شخص صاحب المنصب وعجز عن دفعه وعرفوا عجزه وقعوا للقاهر منهم ورتبوه ومكنوه فإن قوتهم إنما كانت بعسكر وزيرهم وهو ملقب عندهم بالسلطان وما كانوا يرون المكاشفة وقواعدهم مستقرة من أول زمانهم على هذا المثال فلما قهر شاور وأخرج من القاهرة اشتد في طلب الشام قاصداً خدمة نور الدين ابن زنكي مستصرخاً به مستنصراً على أعدائه بعسكره فتقدم نور الدين إلى أسد الدين شيركوه بالخروج إلى مصر المحروسة قضاءً لحق الوافد المستصرخ وحفظاً للبلاد وتطلعاً إلى أحوالها وذلك في شهور سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فتأهب أسد الدين شيركوه وسار إلى مصر فاستصحبه معه رحمه الله عن كراهية منه لمكان افتقاره إليه وجعله مقدم عسكره وصاحب رأيه وساروا حتى وصلوا إلى مصر وشاور معهم في الثاني من جمادى الآخر سنة ثمان المذكورة. وكان لوصولهم إلى مصر وقع عظيم وخافه أهل مصر ونصر شاور على خصمه وأعاده إلى منصبه ومرتبته وقرر قواعده واستقر أمره وشاهد البلاد وعرف أحوالها وعاد منها وقد غرس في قلبه الطمع في البلاد وعرف أنها بلاد بغير رجال، تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال، وكان ابتداء رحلته عنها متوجهاً إلى الشام في السابع من ذي الحجة سنة ثمان المذكورة. وكان لا يفصل أمراً ولا يقرر رحالاً إلا بمشورته ورأيه لما لاح له من آثار الإقبال والسعادة والفكرة الصحيحة واقتران النصر بحركاته وسكناته فأقام بالشام مدبراً لأمره مفكراً في كيفية رجوعه إلى البلاد المصرية محدثاً بذلك نفسه مقرراً قواعد ذلك مع الملك العادل نور الدين زنكي إلى سنة اثنتين وستين وخمسمائة..ذكر عودته إلى مصر في الوقعة الثانية وهي معروفة بوقعة البابين: ولم يزل أسد الدين يتحدث بذلك بين الناس حتى بلغ شاور فداخله الخوف على البلاد من الأتراك وعلم أن أسد الدين قد طمع في البلاد وأنه لا بد له من قصدها فكاتب الإفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون البلاد ويمكنهم تمكيناً كلياً ويعينوه على استئصال أعدائه بحيث يستقر قلبه فيها وبلغ ذلك أسد الدين والملك العادل نور الدين فاشتد خوفهم على مصر إن ملكها الكفار واستولوا على البلاد كلها فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر وألزم السلطان رحمه الله المسير معه على كراهية منه لذلك. وكان توجههم في اثني عشر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة وكان وصولهم إلى البلاد المصرية مقارناً لوصول الإفرنج إليها واتفق شاور مع الإفرنج على أسد الدين والمصريون بأسرهم وجرت بينهم حروب كثيرة ووقعات شديدة وانفصل الإفرنج عن الديار المصرية وانفصل أسد الدين وكان سبب عود الإفرنج أن نور الدين جرد العساكر إلى بلاد الإفرنج وأخذ المنيظرة وعلم الإفرنج بذلك فخافوا على بلادهم وعادوا. وكان سبب عود أسد الدين ضعف عسكره بسبب مواقعة الإفرنج والمصريين وما عانوه من الشدائد وعاينوه من الأهوال. وما عاد حتى صالح الإفرنج على أن ينصرفوا كلهم من مصر وعاد إلى الشام في بقية السنة وقد انضم إلى قوة الطمع في البلاد شدة الخوف عليها من الإفرنج لعلمه أنهم قد كشفوها كما كشفها وعرفوها من الوجه الذي عرفها فأقام على مضض وقلبه مقلقل والقضاء يجره إلى شيء قد قدر لغيره وهو لا يشعر بذلك..ذكر دعوه إلى مصر في الدفعة الثالثة: وهي التي ملكوها فيها وجرى ما جرى في شهور سنة أربع وستين وخمسمائة.ملك نور الدين قلعة المنيظرة بعد سير أسد الدين في رجب وخرب قلعة أكاف بالبرية. وفي رمضان منها اجتمع نور الدين وأخواه قطب الدين وزين الدين بحماة للغزاة وساروا إلى بلاد الإفرنج فخربوا هونين في شوال منها وفي ذي القعدة كان عود أسد الدين من مصر. وكان سبب ذلك أن الإفرنج خذلهم الله جمعوا راجلهم وفارسهم وخرجوا يريدون الديار المصرية ناكثين لجميع ما استقر مع المصريين وأسد الدين من الصلح والقواعد طمعاً في البلاد فلما بلغ ذلك نور الدين وأسد الدين لم يسعهما الصبر دون أن يسارعا إلى قصد البلاد، أما نور الدين فبالمال والرجال ولم يسر بنفسه خوفاً على البلاد من الإفرنج ولأنه قد حدث نظره إلى جانب الموصل بسبب وفاة زين الدين ابن يكتكين فإنه توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وستين وخمسمائة وتسلم ما كان في يده من الحصون إلى قطب الدين ما عدا إربل فإنها كلها كانت له من أتابك زنكي رحمه الله فحدث لنور الدين إلى ذلك الجانب الطمع بهذا السبب فسير العسكر. وأما أسد الدين فبسيفه وملكه وأهله ورجاله ولقد قال لي السلطان قدس الله روحه كنت أكره الناس للخروج في هذه الواقعة وما خرجت مع عمي باختياري وهذا معنى قوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. وكان شاور لما أحس بخروج الإفرنج إلى مصر على تلك القاعدة أنفذ إلى أسد الدين يستصرخه ويستنجده فخرج مسرعاً. وكان وصولهم إلى مصر في أثناء ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمائة، ولما علم الإفرنج وصول أسد الدين إلى مصر عن اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين وعلى أعقابهم ناكصين. وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان. وكان وعدهم بمال مقابلة ما خسروه من النفقة فلم يوصل إليهم شيئاً وعلقت مخاليب أسد الدين في البلاد وعلم أن الإفرنج متى وجدوا فرصة أخذوا البلاد وترددهم إليها في كل وقت لا يفيد وإن شاور يلعب بهم تارة وبالإفرنج تارة أخرى وعلموا أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور فأجمعوا أمرهم على قبضه إن خرج إليهم وكانوا هم يترددون إلى خدمته دون أسد الدين وهو يخرج في بعض الأحيان إلى أسد الدين يجتمع به. وكان يركب على قاعدة وزرائهم بالطبل والبوق والعلم فلم يتجاسر على قبضه من الجماعة إلا السلطان بنفسه. وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً وسار إلى جانبه أخذ بتلابيبه وأمر العسكر أن أخذوا على أصحابه ففروا ونهبهم العسكر وقبض على شاور وأنزل إلى خيمة مفردة وفي الحال جاءه التوقيع من المصريين على يد خادم خاص لا بد من رأسه جرياً على عادتهم في وزرائهم في تقرير قاعدة فيمن قوي منهم على صاحبه فحزت رقبته وأنفذ رأسه إليهم وأنفذ إلى أسد الدين خلعة الوزارة فلبسها وسار ودخل القصر ورتب وزيراً وذلك في سابع عشر ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمائة ودام آمراً ناهياً والسلطان رحمه الله مباشر الأمور مقرر لها وزمام الأمر والنهي مفوض إليه لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة..ذكر وفاء أسد الدين ومصير الأمر إلى السلطان: وذلك أن أسد الدين كان كثير الأكل شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة وتتواتر عليه التخم والخوانيق وينجو منها بعد مقاساة شدة عظيمة فأخذه مرض شديد واعتراه خانوق عظيم فقتله في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وفوض الأمر بعده إلى السلطان واستقرت القواعد واستتبت الأحوال على أحسن نظام وبذل المال وملك الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله عليه فتاب من الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بلباس الجد والاجتهاد وما عاد عنه ولا ازداد إلا جداً إلى أن توفاه الله إلى رحمته، ولقد سمعت منه يقول لما يسر الله لي الديار المصرية علمت أنه أراد فتح الساحل لأنه أوقع ذلك في نفسي، ومن حين استتب له الأمر ما زال يشن الغارات على الإفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادها وغشي الناس من سحائب الأفضال والنعم ما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام هذا كله وهو وزير متابع للقوم ولكنه مقو لمذهب السنة غارس في أهل البلاد العلم والفقه والتصوف والدين والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون عليه من كل جانب وهو لا يخيب قاصداً، ولا يعدم وافداً، ولما عرف نور الدين استقرار السلطان بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين وذلك في رجب من سنة أربع وستين..ذكر قصد الإفرنج دمياط حرسها الله تعالى: ولما علم الإفرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وما تم للسلطان من استقامة في الديار المصرية خافوا أن يملك بلادهم ويخرب ديارهم ويقلع آثارهم لما حدث له من القوة والملك فاجتمع الإفرنج والروم جميعاً وحدثوا أنفسهم بقصد الديار المصرية والاستيلاء عليها وملكها ورأوا قصد دمياط لتمكن القاصد لها من البر والبحر ولعلمهم أنها إن حصلت لهم حصل لهم مغرس قدم فاستصحبوا المنجنيقات والدبابات والجروخ وآلات الحصار وغير ذلك ولما سمع إفرنج الشام بذلك اشتد أمرهم فسرقوا حصن عكا من المسلمين وأسروا صاحبها وكان مملوكاً لنور الدين يسمى خلطخ العلم دار وذلك في ربيع الآخر منها، ولما رأى نور الدين ظهور أمر الإفرنج وبلغه نزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم فنزل على الكرك محاصراً لها في شعبان من هذه السنة فقصده إفرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقف لهم على أثر ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الداية بحلب وكانت وفاته في شهر رمضان سنة خمس وستين فاشتغل قلبه لأنه كان صاحب أمره فعاد يطلب الشام فبلغه خبر الزلزلة بحلب التي أخربت كثيراً من البلاد المذكورة فسار يطلب حلب فبلغه موت قطب الدين أخيه بالموصل وكانت وفاته في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة وبلغه الخبر وهو بتل باشر فسار من ليلته طالباً بلاد الموصل ولما علم السلطان شدة قصد العدو دمياط أنفذ إلى البلد وأودعه من الرجال وأبطال الفرسان والميرة وآلات السلاح ما أمن معه عليه ووعد المقيمين فيه بإمدادهم بالعساكر والآلات وإبعاد العدو عنهم إن نزل عليهم ثم نزل الإفرنج في التاريخ المذكور واشتد زحفهم عليها وقتالهم وهو يشن الغارات عليهم من خارج والعساكر تقاتلهم من داخل ونصر الله المسلمين وأيدهم وحسن قصدهم في نصر دين الله وأسعدهم وأنجدهم حتى بان للإفرنج الخسران وظهر على الكفر الإيمان. ورأوا أنهم ينجون برؤوسهم ويسلمون بنفوسهم. فرحلوا خائبين خاسرين فحرقت مناجيقهم ونهبت وقتل منهم خلق كثير وسلم البلد بحمد الله ومنّه عن قصدهم وظهر بتوفيق الله فل حدهم، واستقرت قواعد السلطان..ذكر طلبه والده: ثم أنفذ في طلب والده ليكمل السرور به ويتم الحبور وتجري القصة مشاكلة لما جرى للنبي يوسف صلاة إلى الله وصلاة عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين، فوصل والده نجم الدين إليه في أثناء جمادى الآخرى من سنة خمس وستين ويملك معه من الأدب ما كان عادته وألبسه الأمر كله فأبى أن يلبسه وقال يا ولدي ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له، ولا ينبغي أن يغير موقع السعادة فحكمه في الخزائن بأسرها ولم يزل السلطان وزيراً محكماً حتى مات العاضد أبو محمد عبد الله وبه ختم أمر المصريين.وأما نور الدين فإنه أخذ الرقة في المحرم سنة ست وستين وسار منها إلى نصيبين فأخذها في بقية الشهر وأخذ سنجار في ربيع الآخر منها ثم قصد الموصل وقصد أن لا يقاتلها فعبر بعسكره من مخاضة بلد وسار حتى خيم قبالة الموصل على تل يقال له الحصن وراسل ابن أخيه عز الدين غازي صاحب الموصل وعرفه صحة قصده فصالحه ودخل الموصل في ثالث جمادى الأولى وقرر صاحبها فيها وزوجه ابنته وأعطى عماد الدين ابن أخيه سنجار وخرج من الموصل قاصداً نحو الشام فدخل حلب في شعبان من هذه السنة. |