الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)
.ذكر عود السلطان إلى الشام: ولما وجد السلطان نشاطاً من مرضه رحل يطلب جهة حلب وكان وصوله إليها رابع عشر محرم سنة اثنتين وثمانين وكان يوماً مشهود الشدة فرح الناس بعافيته ولقائه فأقام فيها أربعة أيام ثم رحل نحو دمشق ولقيه أسد الدين شيركوه بن محمد شيركوه بتل السلطان ومعه أخته وقد صحبه خدمة عظيمة فمن عليه بحمص وأقام أياماً يعتبر تركة أبيه ثم سار يطلب لجهة دمشق وكان دخوله إليها في ثاني ربيع الأول وكان يوماً لم ير مثله فرحاً وسروراً ووقعت في هذا الشهر وقعات كثيرة بين الترك والأكراد بأرض نصيبين وغيرها وقتل من الفئتين خلق عظيم وبلغ السلطان أن معين الدين قد عصا بالراوند فكتب إلى عسكر حلب أن حاصروه، وفي ثاني جمادى الأولى وصل معين الدين من الراوند وقد سلمها إلى علم الدين سليمان ثم مضى إلى خدمة السلطان، وفي سابع عشر وصل الملك الأفضل إلى دمشق ولم يكن قد رأى قبل ذلك الشام..ذكر مسير السلطان العادل إلى مصر ووصول الملك الظاهر إلى حلب: وذلك أن السلطان رأى ذهاب الملك العادل إلى مصر فإنه كان آنس بأحوالها من الملك المظفر ليزيل تقاويضها بذلك وهو على حران مريض وقد حصل ذلك في نفس الملك العادل فإنه كان يحب الديار المصرية فلما عاد السلطان إلى دمشق ومنّ الله بعافيته سير يطلب الملك العادل إلى دمشق فخرج من حلب جريدة في الرابع والعشرين من ربيع الأول وسار حتى أتى دمشق فأقام بها في خدمة السلطان فجرت بينهما أحاديث ومراجعات في قواعد تقرير إلى جمادى الآخرة واستقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر وتسليم حلب وسير الصنيعة لإحضار أهله من حلب وكان الملك الظاهر أيده الله والملك العزيز بدمشق في خرمة والدهما فلما استقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر استقرت على أن يكون أتابك الملك العزيز وسلمه والده إليه يربي أمره وسلم الملك العادل حلب إلى الملك الظاهر، ولقد قال لي الملك العادل أنه لما استقرت عليه هذه القاعدة واجتمعت بخدمة الملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما قلت للملك العزيز يا مولاي إن السلطان قد أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر وأنا أعلم أن المفسدين كثير وغداً لا يخلون ممن يقول عني مالا يجوز ويخوفونك مني فإن كان لك أذن تسمع فقل لي حتى لا أجيء فقال لا أسمع وكيف يكون ذلك، ثم التفت وقلت للملك الظاهر أنا أعرف أن أخاك ربما يسمع في أقوال المفسدين وأنا فمالي إلا أنت متى ضاق صدري من جانبه فقال مبارك وذكر كل خير، ثم إن الملك الظاهر سيره والده إلى حلب ليعلمه أن حلب هي أصل الملك وجرثومته وقاعدته ولهذا دأبت في طلبها ذلك الدأب، ولما حصلت أعرض عما عداها من بلاد المشرق وقنع منهم بالطاعة والمعونة على الجهاد فسلمها إليه علماً منه بحذاقته وحزمه وثباته وعلو همته فسار إليها حتى العين المباركة وسير في خدمته الشحنة حسام الدين بشاره ووالياً عيسى بن بلاشوا فنزل بعين المباركة وخرج الناس إلى لقائه في بكرة تاسع جمادى الآخرى وصعد القلعة ضحوة نهار وفرح الناس به فرحاً شديداً ومد على الناس من جناح عدله. وأفاض عليه وابل فضله، وأما الملك العزيز والملك العادل فإن السلطان قرر حالتهما وكتب إلى الملك المظفر يخبره بمسير الملك العزيز وهو صحبة عمه ويأمره بالوصول إلى الشام وشق ذلك عليه حتى أظهر للناس وعزم على المسير إلى ديار الغرب إلى برقا فقبح ذلك عليه جماعة من أكابر الدولة وعرفوه أن عمه السلطان يخرج من يده في الحال والله أعلم ما يكون بعد ذلك فرأى الحق بعين البصيرة وأجاب بالسمع والطاعة وسلم البلاد ورحل واصلاً إلى خدمة السلطان فسار السلطان إلى لقائه وفرح بوصوله فرحاً شديداً وذلك في الثالث والعشرين من شعبان وأعطاه حماة وسار إليها وكان قد عقد بين الملك الظاهر وبعض بنات الملك العادل عقد نكاح فتمم ذلك ودخل بها في السادس والعشرين من شهر رمضان ودخل الملك الأفضل على زوجته بنت ناصر الدين بن أسد في شوال من السنة المذكورة المباركة..ذكر غزاة أنشأها إلى الكرك: ولما كان محرم سنة ثلاث وثمانين عزم على قصد الكرك فسير إلى حلب من يستحضر العسكر وبرز من دمشق في منتصف محرم فسار حتى نزل بأرض نيطرة منتظراً اجتماع العساكر المصرية والشامية وأمر العساكر المتواصلة إليه بشن الغارات على ما في طريقهم من البلاد الساحلية ففعلوا ذلك وأقام بأرض الكرك حتى وصل الحاج الشامي إلى الشام وأمنوا غائلة العدو ووصل قفل مصر الشتوي ووصل معه بيت الملك المظفر وما كان له بالديار المصرية وتأخرت عنه العساكر الحلبية بسبب اشتغالها بالإفرنج بأرض الأرمن من بلاد ابن لاون وذلك أنه قد مات ملك الإفرنج ووصى لابن أخيه بالملك وكان الملك المظفر بحماه وبلغ السلطان الخبر فأمرهم بالدخول إلى بلاد العدو وإخماد ثائرتهم وسار الملك المظفر بعسكر حلب إلى حارم فأقام بها ليعلم العدو أن هذا الجانب ليس بمهمل فعاد السلطان إلى الشام ونزل بعشترا في السابع عشر من ربيع الأول ولقيه ولده الملك الأفضل ومظفر الدين بن زين الدين وجميع العساكر. وكان قد تقدم إلى الملك المظفر بمصالحة الجانب الحلبي مع الإفرنج ليتفرغ البال من العدو في جانب واحد فصالحهم في العشر الأواخر من ربيع الأول وتوجه إلى حماة يطلب خدمة السلطان للغزاة التي عزم عليها فسار ومن اجتمع به من العساكر الشرقية في خدمته وهم عسكر الموصل مقدمتهم مسعود بن الزعفراني وعسكر ماردين فلقيهم السلطان في العشر الأوسط من ربيع الآخر فأقرهم وأكرمهم في منتصف هذا الشهر عرض السلطان العسكر لأمر قد عزم عليه على تل يعرف بتل تسيل تيسل وتقدم في أصحاب الميمنة بحفظ موضعهم وإلى أصحاب الميسرة بذلك وإلى القلب بمثله..ذكر واقعة حطين المباركة على المؤمنين: وذلك أنّ السلطان رأى أن نعمة الله عليه باستقرار قدمه في الملك وتمكين الله إياه في البلاد وانقياد الناس لطاعته ولزومهم قانون خدمته ليس لها شكر سوى الاشتغال ببذل الجهد والاجتهاد إلى إقامة قانون الجهاد، فسير إلى سائر العساكر واستحضرها، واجتمعوا إليه بعشترا في التاريخ المذكور، وعرضهم ورتبهم، واندفع قاصداً نحو بلاد العدو المخذول في نهار الجمعة سابع عشر ربيع الآخر، وكان أبداً يقصد بوقعاته الجمع سيّما أوقات صلاة الجمعة تبرّكاً بدعاء الخطباء على المنابر، فربّما كانت أقرب إلى الإجابة، فسار في ذلك الوقت على تعبية الحركة، وكان بلغه أن العدو لما بلغهم أنه قد جمع العساكر اجتمعوا بأسرهم في مرج صفورية بأرض عكا وقصدوا نحو المصاف معهم، فسار ونزل من يومه على بحيرة طبرية عند قرية تسمى الصبيرة، ورحل من هناك ونزل غربي طبرية على سطح الجبل بتعبية الحرب منتظراً أن الإفرنج إذا بلغهم ذلك قصدوه، فلم يتحركوا من منزلهم، وكان نزوله في هذه المنزلة يوم الأربعاء الحادي والعشرين، فلما رآهم لا يتحركون نزل جريدة على طبرية وترك الأطلاب بحالها قبالة وجه العدو، ونازل طبرية وزحف عليها فهجمها وأخذها في ساعة من نهار،وامتدت الأيدي إليها بالنهب والأسر والحريق والقتل، واحتمت القلعة وحدها. ولما بلغ العدو ما جرى على طبرية لم يأخذهم الصبر دون إجابة الحمية فرحلوا من وقتهم وساعتهم، وقصدوا طبرية للدفع عنها، فأخبرت الطلائع الإسلامية الأمراء بحركة الإفرنج، فسيروا إلى السلطان من عرّفه ذلك، فترك على طبرية من يحفظ قلعتها ولحق العسكر هو ومن معه، فالتقى العسكران على سطح جبل طبرية الغربي منها، وذلك في أواخر الخميس الثاني والعشرين، وحال الليل بين الفئتين، فتبايتا على مصاف شاكي السلاح إلى صبيحة الجمعة في الثالث والعشرين، فركب العسكران وتصادما، وعملت الجاليشية، وتحركت الأطلاب، والتحم القتال، واشتد الأمر، وذلك بأرض قرية تسمى اللوبيا، وضاق الخناق بالقوم هذا وهم سائرون كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وقد أيقنوا بالويل والثبور. وأحست أنفسهم أنهم في غد زوّار القبور. ولم يزل الحرب يلتحم. والفارس مع قرنه يصطدم. حتى لم يبق إلاّ الظفر. ووقع الوبال على من كفر. فحال بينهما الليل وظلامه، وجرى في ذلك اليوم من الوقائع العظيمة، والأمور الجسيمة، ما لم يحك عمّن تقدم، وبات كل فريق في سلاحه ينتظر خصمه في كل ساعة وقد أقعده التعب عن النهوض. وشغله النصب عن الحبو فضلا عن الركوض. حتى كان صباح السبت الذي بورك فيه فطلب كل من الفريقين مقامه، وعلمت كل طائفة أن المكسورة بينهما مدحورة الجنس معدومة النفس. وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن، ومن بين أيديهم بلاد القوم وأن لا ينجيهم إلاّ الله تعالى، وكان الله قدّر نصر المؤمنين ويسّره. وأجراه على وفق ما قدّره. فحملت الأطلاب الإسلامية من الجوانب وحمل القلب وصاحوا صيحة الرجل الواحد، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين. وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين. وكان القومص ذكي القوم وأطغاهم، فرأى أمارات الخذلان قد نزلت بأهل دينه ولم يشغله ظن محاسنة حبسه عن تعبية، فهرب في أوائل الأمر قبل اشتداده وأخذ طريقه نحو صور، وتبعه جماعة من المسلمين، فنجا وحده. وأمن الإسلام كيده واحتاط أهل الإسلام بأهل الكفر والطغيان من كل جانب وأطلقوا عليهم السهام وعاملوهم بالصفاح، وانهزمت منهم طائفة فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها واحد، واعتصمت الطائفة الأخرى بتل يقال له تل حطين، وهي قرية عنده وعندها قبر شعيب عليه الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء، فضايقهم المسلمون على التل، وأشعلوا حواليهم النيران، وقتلهم العطش، وضاق بهم الأمر، حتى كانوا يستسلمون للأسر خوفا من القتل، فأسر مقدموهم وقتل الباقون وأسروا، وكان فيمن سلم وأسر من مقدميهم: الملك جفري والبرنس أرناط وأخو الملك، والبرنس هو صاحب الشوبك، وابن الهنغري وابن صاحب طبرية ومقدم الداوية وصاحب حبيل ومقدم الأسبتار، وأما الباقون من المقدمين فإنهم قتلوا، وأما الأذوان فإنهم قسموا إلى قتيل وأسير ولم يسلم منهم إلاّ من أسر، وكان الواحد العظيم منهم يخلد إلى الأسر خوفاً على نفسه، ولقد حكى لي من أثق به أنه لقي بحوران شخصاً واحداً معه طنب خيمة فيه نيف وثلاثون أسيرا أخذهم وحده لخذلان وقع عليهم. فأما الذين بقوا من مقدميهم فنذكر حديثهم. أما القومص الذي هرب فإنه وصل إلى طرابلس وأصابته ذات الجنب فأهلكه الله بها. وأما مقدم الأسبتار والداوية فإن السلطان اختار قتلهم فقتلوا عن بكرة أبيهم. وأما البرنس أرناط فكان السلطان قد نذر أنه إذا ظفر به قتله، وذلك أنه كان عبر به بالشوبك قافلة من الديار المصرية في حالة الصلح فنزلوا عنده بالأمان، فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الله والصلح الذي بينه وبين المسلمين، فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبلغ ذلك السلطان، فحمله الدين والحميّة على أنه نذر إن ظفر به قتله. ولما فتح الله بالنصر والظفر جلس السلطان في دهليز الخيمة فإنها لم تكن نصبت والناس يتقربون إليه بالأسرى ومن وجدوه من المقدمين، ونصبت الخيمة، وجلس فرحاً مسروراً لما أنعم الله به عليه، ثم استحضر الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط، وناول الملك جفري شربة من حلاب بثلج، فشرب منها وكان على أشدّ حال من العطش، ثم ناول بعضها البرنس أرناط، فقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته وأما أنا فما سقيته، وكان على عادة جميل العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل وشرب من ماء لمن أسره أمن بذلك، جرياً على مكارم الأخلاق، ثم أمرهم بمسيرهم إلى موضع عين لنزولهم، فمضوا وأكلوا شيئا ثم عادوا، فاستحضرهم ولم يبق عنده سوى بعض الخدم، وأقعد الملك في الدهليز، واستحضر البرنس أرناط وأوقفه على ما قال، وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل، ثم حمل النمجاة وضربه بها فحل كتفه وتمم عليه من حضر، وعجّل الله بروحه إلى النار، فأخذ ورمي على باب الخيمة، فلما رآه الملك قد خرج به على تلك الصورة لم يشك أنه يشي به، فاستحضره وطيّب قلبه وقال: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز حدّه فجرى ما جرى. وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور، وأكمل حبور، ترتفع أصواتهم بالحمد لله والشكر له والتكبير والتهليل حتى طلع الصبح في يوم الأحد، وتسلّم قدّس الله روحه في بقية ذلك اليوم قلعة طبرية وأقام بها إلى يوم الثلاثاء. ثم رحل طالباً عكا، وكان نزوله عليها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر، وقاتلها يوم الخميس مستهل جمادى الأولى، فأخذ واستنقذ من كان فيها من الأسارى وكانوا زهاء أربعة آلاف نفر، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع والتجائر، فإنها كانت مظنة التجار، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة وأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وكان ذلك لخلوّها عن الرجل بالفتك والأسر، ولما استقرت قواعد عكا واقتسم الغانمون أموالها وأساراها سار يطلب تبتين فنزل عليها يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق عليها بالزحف الخناق، وكان بها رجال أبطال شديدون في دينهم فاحتاجوا إلى معاناة شديدة، ونصره الله عليهم، وتسلمها ثامن عشر عنوة، وأسر من بقي بها بعد القتل، ثم رحل منها إلى صيدا فنزل عليها، ومن الغد تسلمها وأقام عليها بحيث قرر قاعدتها. ثم سار حتى أتى بيروت، فنازلها في الثاني والعشرين، فركب عليها القتال والزحف وضيق عليهم الأمر، حتى أخذها في التاسع والعشرين، وتسلم أصحابه حبيلا وهو على بيروت. ولما فرغ باله من هذا الجانب رأى قصد عسقلان ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها ومارسها لأن العسكر كان قد تفرق في الساحل وذهب كل إنسان يأخذ لنفسه شيئا وكانوا قد ضرسوا من القتال وملازمة الحرب، وكان قد اجتمع في صور كل إفرنجي بقي في الساحل، فرأى قصد عسقلان لأن أمرها كان أيسر، ونازلها في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، وتسلم في طريقه مواضع كثيرة كالرملة وبينا والدارون، وأقام عليها المنجنيقات، وقاتلها قتالا شديداً، وتسلمها سلخ هذا الشهر وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبرين والنطرون بغير قتال، وحمان بين فتوح عسقلان، وأخذ الإفرنج لها من المسلمين خمسة وثلاثون سنة، فإنّ العدوّ ملكها في سبعة وعشرين من جمادى الأخرى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.خذلان وقع عليهم. فأما الذين بقوا من مقدميهم فنذكر حديثهم. أما القومص الذي هرب فإنه وصل إلى طرابلس وأصابته ذات الجنب فأهلكه الله بها. وأما مقدم الأسبتار والداوية فإن السلطان اختار قتلهم فقتلوا عن بكرة أبيهم. وأما البرنس أرناط فكان السلطان قد نذر أنه إذا ظفر به قتله، وذلك أنه كان عبر به بالشوبك قافلة من الديار المصرية في حالة الصلح فنزلوا عنده بالأمان، فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الله والصلح الذي بينه وبين المسلمين، فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبلغ ذلك السلطان، فحمله الدين والحميّة على أنه نذر إن ظفر به قتله. ولما فتح الله بالنصر والظفر جلس السلطان في دهليز الخيمة فإنها لم تكن نصبت والناس يتقربون إليه بالأسرى ومن وجدوه من المقدمين، ونصبت الخيمة، وجلس فرحاً مسروراً لما أنعم الله به عليه، ثم استحضر الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط، وناول الملك جفري شربة من حلاب بثلج، فشرب منها وكان على أشدّ حال من العطش، ثم ناول بعضها البرنس أرناط، فقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته وأما أنا فما سقيته، وكان على عادة جميل العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل وشرب من ماء لمن أسره أمن بذلك، جرياً على مكارم الأخلاق، ثم أمرهم بمسيرهم إلى موضع عين لنزولهم، فمضوا وأكلوا شيئا ثم عادوا، فاستحضرهم ولم يبق عنده سوى بعض الخدم، وأقعد الملك في الدهليز، واستحضر البرنس أرناط وأوقفه على ما قال، وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل، ثم حمل النمجاة وضربه بها فحل كتفه وتمم عليه من حضر، وعجّل الله بروحه إلى النار، فأخذ ورمي على باب الخيمة، فلما رآه الملك قد خرج به على تلك الصورة لم يشك أنه يشي به، فاستحضره وطيّب قلبه وقال: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز حدّه فجرى ما جرى. وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور، وأكمل حبور، ترتفع أصواتهم بالحمد لله والشكر له والتكبير والتهليل حتى طلع الصبح في يوم الأحد، وتسلّم قدّس الله روحه في بقية ذلك اليوم قلعة طبرية وأقام بها إلى يوم الثلاثاء. ثم رحل طالباً عكا، وكان نزوله عليها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر، وقاتلها يوم الخميس مستهل جمادى الأولى، فأخذ واستنقذ من كان فيها من الأسارى وكانوا زهاء أربعة آلاف نفر، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع والتجائر، فإنها كانت مظنة التجار، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة وأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وكان ذلك لخلوّها عن الرجل بالفتك والأسر، ولما استقرت قواعد عكا واقتسم الغانمون أموالها وأساراها سار يطلب تبتين فنزل عليها يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق عليها بالزحف الخناق، وكان بها رجال أبطال شديدون في دينهم فاحتاجوا إلى معاناة شديدة، ونصره الله عليهم، وتسلمها ثامن عشر عنوة، وأسر من بقي بها بعد القتل، ثم رحل منها إلى صيدا فنزل عليها، ومن الغد تسلمها وأقام عليها بحيث قرر قاعدتها. ثم سار حتى أتى بيروت، فنازلها في الثاني والعشرين، فركب عليها القتال والزحف وضيق عليهم الأمر، حتى أخذها في التاسع والعشرين، وتسلم أصحابه حبيلا وهو على بيروت. ولما فرغ باله من هذا الجانب رأى قصد عسقلان ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها ومارسها لأن العسكر كان قد تفرق في الساحل وذهب كل إنسان يأخذ لنفسه شيئا وكانوا قد ضرسوا من القتال وملازمة الحرب، وكان قد اجتمع في صور كل إفرنجي بقي في الساحل، فرأى قصد عسقلان لأن أمرها كان أيسر، ونازلها في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، وتسلم في طريقه مواضع كثيرة كالرملة وبينا والدارون، وأقام عليها المنجنيقات، وقاتلها قتالا شديداً، وتسلمها سلخ هذا الشهر وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبرين والنطرون بغير قتال، وحمان بين فتوح عسقلان، وأخذ الإفرنج لها من المسلمين خمسة وثلاثون سنة، فإنّ العدوّ ملكها في سبعة وعشرين من جمادى الأخرى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. |