الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية **
ثم طلب الحاجب أبا بكر العادلي وحضر عندهم أيبك العزيزي وسنقر المشطوبي وغيرهم وكان قد صادق جماعة من خواص المماليك ودخل معهم دخولاً عظيماً بحيث كانوا يجتمعون به في أوقات متعددة وكان قد صادق من الأمراء جماعة كبدر الدين دلدرم وغيره فلما حضر هذا الجمع عنده جد وهزل ومن جملة ما قاله هذا السلطان عظيم وما في هذه الأرض للإسلام أكبر ولا أعظم منه كيف رحل عن المكان بمجرد وصولي والله ما لابست لأمة الحرب ولا تأهبت لأمر وليس في رجلي إلا رذول البحر فكيف تأخر ثم قال والله العظيم الكريم ما ظننت أنه يأخذ يافا في شهرين فكيف أخذها في يومين. ثم قال لأبي بكر سلم على السلطان وقل له بالله عليك أجب سؤالي في الصلح فهذا الأمر لا بد له من آخر وقد هلكت بلادي وراء البحر وما في دوام هذا مصلحة لا لنا ولا لكم ثم انفصلوا عنه وحضر أبو بكر عند السلطان وعرفه ما قال وكان ذلك في أواخر يوم السبت تاسع عشر شهر رجب فلما سمع السلطان ذلك أحضر أرباب المشورة وانفصل الحال على أن الجواب هو: أنك كنت طلبت الصلح أولاً على قاعدة وكان الحديث في يافا وعسقلان والآن قد خربت يافا فيكون لك من صور إلى قيسارية. فمضى إليه وعرفه ما قال فرده إليه ومعه رسول إفرنجي وقال يقول الملك: إن قاعدة الإفرنج أنه إذا أعطى واحد لواحد بلداً صار تبعه وغلامه وأنا أطلب منك هذين البلدين يافا وعسقلان وتكون عساكرهما في خدمتك دائماً وإذا احتجت إلي وصلت إليك في أسرع وقت وخدمتك كما تعلم خدمتي. فكان جواب السلطان: حيث دخلت هذا المدخل فأنا أجيبك بأن نجعل هذين البلدين قسمين أحدهما لك وهو يافا وما وراءها والثاني لي وهو عسقلان وما وراءها. ثم سار الرسولان ورحل السلطان إلى الثقل وكان المخيم ببازور ورتب النقابين لذلك واليزك عندهم وسار حتى أتى الرملة فخيم بها يوم الأحد العشرين من رجب ووصل إليه الرسول مع الحاجب أبي بكر فأمر بإكرامه والإحسان إليه وكانت رسالته الشكر من الملك على إعطائه يافا وتجديد السؤال في عسقلان ويقول إنه إن وقع الصلح في هذه الأيام سار إلى بلاده ولا يحتاج أن يشتي هاهنا فأجابه السلطان في الحال بقوله: أما النزول عن عسقلان فلا سبيل إليه وأما تشتيته هاهنا فلا بد منه لأنه قد استولى على هذه البلاد ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة كما تؤخذ أيضاً إذا أقام إن شاء الله تعالى. وإذا سهل عليه أن يشتي هاهنا ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين وهو شاب في عنفوان شبابه ووقت اقتناص لذاته أفلا يسهل علي أن أشتي وأصيف وأنا في وسط بلادي وعندي أولادي وأهلي ويأتي إلى ما أريد وأنا رجل شيخ قد كرهت لذات الدنيا وشبعت منها ورفضتها عني والعسكر الذي يكون عندي في الشتاء غير العساكر الذي يكون عندي في الصيف وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات ولا أزال كذلك حتى يعطي الله النصر لمن يشاء. فلما سمع الرسول ذلك طلب أن يجتمع بالملك العادل فأذن له في ذلك فسار إلى خيمته وكان قد تأخر بسبب مرض اعتراه إلى موضع يقال له صمويل فسار الرسول إليه مع جماعة ثم بلغ السلطان أن عسكر العدو قد رحل من عكا قاصداً يافا للإنجاد فجمع أرباب الرأي وعقد مشورة في قصدهم فاتفق الرأي على أنهم يقصدونهم ويرحل بالثقل إلى الجبل ويقصدونهم جريدة فإن لاحت فرصة انتهزوها وإلا رجعوا عنهم وهذا أولى من أن نصبر حتى تجتمع عساكر العدو ونرحل إلى الجبل في صورة منهزمين وأما إذا وصلنا الآن ففي صورة طالبين فأمر السلطان الثقل أن يسير إلى الجبل عشية الاثنين الحادي والعشرين من رجب وسار هو جريدة في صبيحة يوم الثلاثاء حتى نزل على العوجاء ووصل إليه من أخبره أن عسكر العدو قد وصل قيسارية ودخل عليها ولم يبق فيه طمع وبلغه أن الأنكتار قد نزل خارج يافا في نفر يسير بخيم قليلة فوقع له أن ينتهز فيه الفرصة ويكبس خيمه وينال منهم غرضاً وعزم على ذلك وسار من أول الليل والأدلة من العرب تتقدمه وهو يقطع الطريق إلى أن أتى في الصباح إلى خيام العدو فوجدها تقريباً عشر خيم فداخله الطمع وحملوا حملة الرجل الواحد فثبتوا في أمكنتهم وكشروا عن أنياب الحرب فوجموا من ثباتهم وسار العسكر حلقة واحدة. ولقد حكى لي بعض الحاضرين فإني كنت تأخرت من الثقل ولم أحضر هذه الواقعة لالتياث مزاجي أن عدة الخيل كان يحزرها المكثر سبعة عشر والمقل تسعة والرجال دون الألف فمن قائل ثلاثمائة ومن قائل أكثر من ذلك فوجد السلطان من ذلك مغيظة عظيمة ودار على الأطلاب يحثها فلم يجب دعاءه سوى ولده الملك الظاهر وقال له الجناح أخو المشطوب قل لغلمانك الذين ضربوا الناس يوم فتح يافا وأخذوا منهم الغنيمة وكان في قلوب العسكر من صلح يافا حيث فوتوهم الغنيمة ما كان وجرى ما جرى ما أثر هذا الأثر. فلما رأى السلطان ذلك رأى أن وقوفه في مقابلة هذه الشرذمة اليسيرة من غير عمل خسة في حقه وقد بلغني أن الأنكتار أخذ رمحه ذلك اليوم وحمل من طرف الميمنة إلى طرف الميسرة فلم يتعرض له أحد فغضب السلطان ثم أعرض عن القتال وسار حتى أتى بازور كالمغضب ونزل بها وذلك في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من رجب وبات العسكر باليزك ثم أصبح يوم الخميس وساروا إلى النطرون ونزل به وأنفذ إلى العسكر فأحضر عنده فوصلنا إليه آخر نهار الخميس الرابع والعشرين فبات به فأصبح يوم الجمعة فسار إلى أخيه العادل يفتقده ودخل القدس وصلى الجمعة ونظر العمائر ورتبها ثم عاد من يومه إلى الثقل وبات فيه على النطرون. كان أول ما وصل علاء الدين بن أتابك صاحب الموصل وكان وصوله ضحاء نهار السبت السادس والعشرين من رجب فلقيه السلطان على بعد واحترمه وأكرمه وأنزله عنده في الخيمة وعمل همة حسنة وقدم له تقدمة جميلة ثم سار إلى خيمته. وأما رسول الملك فإنه عاد في ذلك اليوم فإن الملك العادل قد حمله رسالة مشافهة إلى الملك وعاد مع الحاجب أبي بكر إلى يافا فعاد أبو بكر وحضر عند السلطان في ذلك اليوم وأخبره أن الملك لم يتركني أدخل يافا وخرج إلي وكلمني في ظاهرها وكان كلامه إلي كم أطرح نفسي على السلطان وهو لا يقبلني وأنا كنت أحرص أن أعود إلى بلادي والآن قد هجم الشتاء وتغير الأنواء وقد عزمت على الإقامة وما بقي بيننا حديث. هكذا كان جوابه خذله الله تعالى. ولما كان يوم الخميس تاسع شعبان قدم عسكر مصر فخرج السلطان إلى لقائهم وكان فيهم مجد الدين هلدري وسيف الدين يازكج وجماعة الأسدية وكان في خدمته الملك المؤيد مسعود وقد أظهروا الزينة ونشروا الأعلام والبيارق فكان يوماً مشهوداً ثم أنزلهم عنده ومد الخوان ثم ساروا إلى منازلهم. وكان قد تسلم البلاد التي وعد بها وكان وصوله إلى خدمة الملك العادل في يوم السبت حادي عشر شعبان فنزل عنده بماء صمويل وافتقده وكتب الملك العادل في ذلك اليوم إلى السلطان يخبره بوصوله وسأله في احترامه وإكرامه وإطلاق الرحمة له. ولما تحقق الملك الظاهر وصول الملك المنصور مخيماً يبيت نوبة فنزل عنده وخرج إلى لقائه وأقام عنده إلى العصر وذلك في يوم الأحد ثم أخذه وسار به جريدة حتى أتى خيمة السلطان ونحن في خدمته فدخل عليه فاحترمه ونهض إليه واعتنقه وضمه إلى صدره ثم غشيه البكاء فصبر نفسه حتى غلبه الأمر وغشيه من البكاء ما لم ير مثله فبكى الناس لبكائه ساعة زمانية ثم باسطه وسأله عن الطريق ثم انفصل وبات في خيمة الملك الظاهر إلى صبيحة الاثنين ثم ركب وعاد إلى عسكره ونشروا الأعلام والبيارق وكان معه عسكر جليل فقرت عين السلطان ونزل في مقدمة العسكر مما يلي الرملة. وذلك أنه لما رأى العساكر قد اجتمعت جمع أرباب الرأي وقال إن الأنكتار قد مرض مرضاً شديداً والافرنسيسية قد ساروا راجعين ليعبروا من البحر من غير شك ونفقاتهم قد قلت وهذا العدو قد أمكن الله منه وأرى أن نسير إلى يافا فإن وجدنا فيها مطمعاً بلغناه وإلا عدنا تحت الليل إلى عسقلان فما تلحقنا النجدة إلا وقد نلنا منها غرضاً فرأوا ذلك رأياً. وتقدم إلى جماعة من الأمراء كعز الدين جرديك وجمال الدين فرج وغيرهما بالمسير في ليلة الخميس سادس عشر شعبان حتى يكونوا قريباً من يافا في صورة يزك يستطلعون كم فيها من الخيالة والرجالة بالجواسيس ثم يعرفونه ذلك فساروا هذا ورسل الأنكتار لا تنقطع في طلب الفاكهة والثلج ووقع عليه في مرضه شهوة الكمثرى والخوخ فكان السلطان يمده بذلك ويقصد كشف الأخبار بتواتر الرسل والذي انكشف من الأخبار أن فيها ثلاثمائة فارس على قول المكثر ومائتي فارس على قول المقل وإن الكندهري يتردد بينه وبين الفرنسية في مقامهم وهم عازمون على عبور البحر قولاً واحداً وأنهم لا عناية بسور البلد وإنما عنايتهم بعمارة سور القلعة وكان الأنكتار قد طلب الحاجب أبا بكر العادلي وكان له معه انبساط عظيم فلما تحقق السلطان الأخبار أصبح يوم الخميس راحلاً إلى جهة الرملة فنزل بها ضاحي نهار ووصل الخبر من المغيرين يقولون إنا أغرنا على يافا فلم يخرج إلا نحو ثلاثمائة فارس معظمهم على بغال فأمرهم السلطان بمقامهم هناك ثم وصل الحاجب أبو بكر ومعه رسول من عند الملك يشكر السلطان على إنعامه بالفواكه والثلج وذكر أبو بكر أنه تفرد به وقال له قل لأخي الملك العادل يبصر كيف يتوصل إلى السلطان في معنى الصلح ويستوهب لي منه عسقلان وأمضي أنا ويبقى هو في هذه الشرذمة اليسيرة يأخذ البلاد منهم فليس لي غرض إلا إقامة جاهي بين الإفرنج وإن لم ينزل السلطان عن عسقلان فيأخذ لي منه عوضاً عن خسارتي على عمارة سورها. فلما سمع السلطان سيرهم إلى الملك العادل وأسرّ إلى ثقة عنده أن يمضي إلى الملك العادل ويقول له إن نزلوا عن عسقلان فصالحهم فإن العسكر قد ضجروا من ملازمة البيكار والنفقات قد نفدت فسار ضحى الجمعة سابع عشر شعبان. ولما كان غروب الشمس من اليوم المذكور أنفذ بدر الدين دلدرم من اليزك يقول أنه قد خرج إلينا خمسة أنفس منهم شخص مقدم عند الملك يسمى هوات وذكروا أن لهم معنا حديثاً فهل أسمع حديثهم أو لا فأذن له السلطان في ذلك ولما كانت العشاء الآخرة حضر بدر الدين بنفسه وأخبر أن حديثهم كان أن الملك قد نزل عن عسقلان وعن طلب العوض عنها وقد صح مقصوده في الصلح فأعاده السلطان ثانية لينفذ إليه ثقة يأخذ يده على ذلك ويقول أن السلطان قد جمع العساكر وما يمكنني أن أحدثه هذا الحديث إلا بأن أثق أنك لا ترجع وبعد ذلك أحدثه وسار بدر الدين على هذه القاعدة وكتب إلى الملك العادل يخبره بما جرى. ولما كان يوم السبت ثامن عشر شعبان أنفذ بدر الدين وذكر أنه أخذ يده على هذه القاعدة بمن يثق به وأن حدود البلاد على ما استقر في الدفعة الأولى مع الملك العادل فأحضر السلطان الديوان فذكروا يافا وأعمالها وأخرج الرملة ويبنا ومجدل يابا ثم ذكر قيسارية وأعمالها وأرسوف وأعمالها وحيفا وأعمالها وعكا وأعمالها وأخرج منها الناصرة وصفورية وأثبت الجميع في ورقة وكتب جواب الكتاب وأنفذه على يد طرنطاي مع الرسول وكان قد وصل الرسول لتحرير القاعدة مع بدر الدين في عصر السبت وقال للرسول هذه حدود البلاد التي تبقى في أيديكم فإن صالحتم على ذلك فمبارك قد أعطيتم يدي ولينفذ الملك من يحلف ويكون ذلك في غداة غد وإلاّ فيعلم أن هذا تدفيع ومماطلة ويكون الأمر قد انفصل من بيننا وساروا في بكرة الأحد على هذه القاعدة. ولما كان العشاء الآخرة يوم الأحد وصل من أخبر بوصول طرنطاي ومعه الرسول واستأذن في حضورهما فأذن رحمه الله في حضور طرنطاي وحده فذكره أن الملك قد وقف على تلك الرقعة وأنكر أنه نزل عن ذلك فقال: إذن أنا قتلته فلا أرجع عنه. قولوا للسلطان مبارك رضيت بهذه القاعدة وقد رجعت إلى مروءتك فإن زدتني شيئاً فمن فضلك وإنعامك. ثم سار واحضر الرسل ليلاً وأقاموا إلى بكرة وحضروا عند السلطان بكرة الإثنين فذكروا ما استقر عن صاحبهم ثم انفصلوا إلى خيمهم وحضر عند السلطان أرباب المشورة واستقر الأمر وانفصلت القاعدة وسار الأمير بدر الدين دلدرم إلى الملك العادل وأخذ الرسل معه في صورة من يسأل في زيادة الرملة وعاد في عشاء الآخرة ليلة الإثنين وكتبت المواضعة وذكر فيها شروط الصلح ثلاث سنين من تاريخها وهو الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمانية وثمانين وخمسمائة ويراد فيها الرملة لهم و لدّ أيضاً وسيّر العدل وقال له إن قدرت أن ترضيهم بأحد الموضعين أو مناصفتها فافعل ولا يكون لهم حديث في الجبليات ورأى السلطان ذلك مصلحة لما عرا الناس من الضعف وقلة النفقات والشوق إلى الأوطان ولما شاهده من تقاعدهم عن يافا يوم أمرهم بالحملة فلم يحملوا فخاف أن يحتاج إليهم فلم يجدهم فرأى أن يحييهم مدة حتى يستريحوا ويتبعوا غير هذه الحالة التي صاروا غليها ويعمر البلاد ويشحن القدس بما يقدر عليه من الآلة ويتفرغ لعمارتها. وكان من القاعدة أن عسقلان تكون خراباً وأن يتفق أصحابنا وأصحابهم على خرابها خشية أن نأخذها عامرة فلا نخربها فمضى العدل على هذه القاعدة واشترط دخول البلاد الإسلامية واشترطوا هم دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في الصلح على قاعدة آخر صلح صالحناهم عليه واستقر الحال على ذلك وسارت الرسل وحكم عليهم أن لابد من فصل الحال إما الصلح وإما الخصومة خشية أن يكون هذا الحديث من قبيل أحاديثه السابقة ومدافعاته المعروفة. وفي ذلك اليوم وصل رسول سيف الدين بكتمر صاحب خلاط يبذل الطاعة والموافقة وسير العساكر وحضر رسول الكرج وذكر فصلاً في معنى الزيادات التي لهم في القدس وعمارتها وشكوا أنها أخذت من أيديهم ويسأل عواطف السلطان أن يردها إلى نوابهم ورسول صاحب أرزن الروم يبذل الطاعة والعبودية. ولما وصل العدل إلى هناك أنزل خارج البلد في خيمة حتى أعلم الملك به فلما علم به استحضره عنده مع بقية الجماعة وعرض العدل عليه النسخة وهو مريض الجسم فقال: لا طاقة لي بالوقوف عليها وأنا قد صالحت وهذه يدي فاجتمعوا بالكندهري والجماعة وأوقفوهم على النسخة ورضوا بلد والرملة مناصفة وبجميع ما في النسخة واستقرت القاعدة أنهم يحلفون بكرة يوم الأربعاء بأنهم كانوا قد أكلوا شيئاً وليس من عادتهم الحلف بعد الأكل وأنفذ العدل إلى السلطان من عرفه ذلك. ولما كان يوم الأربعاء الثاني والعشرون من شعبان حضر الجماعة عند الملك وأخذوا يده وعاهدوه واعتذر أن الملوك لا يحلفون وقنع السلطان بذلك ثم حلف الجماعة والمستحلف الكندهري ابن أخته المستخلف عنه في الساحل وباليان بن بارزان صاحب طبرية ورضي الأسبتار والداوية وسائر مقدمي الإفرنجية بذلك وساروا بقية يومهم عائدين إلى المخيم السلطاني فوصلوا العشاء الآخرة وكان الواصلون من جانبهم ابن الهنغري وابن بارزان وجماعة من مقدميهم فاحترموا وأكرموا وضربت لهم خيمة تليق بهم وحضر العدل وحكى ما جرى. ولما كانت صبيحة الثالث والعشرين حضر الرسل في خدمة السلطان وأخذوا بيده الكريمة وعاهدوه على الصلح على القاعدة المستقرة واقترحوا حلف جماعة وهم الملك العادل والملك الأفضل والملك الظاهر عن نصرهم والمشطوب وبدر الدين دلدرم والملك المنصور ومن كان مجاوراً لبلادهم كابن المقدم وصاحب شيزر وغيرهم فوعدهم السلطان أن يسير معهم رسلاً إلى الجماعة المجاورين ليحلفوهم لهم وحلف لصاحب أنطاكية وطرابلس وعلّق اليمين بشرط حلفهم للمسلمين فإن لم يحلفوا فلا يدخل في الصلح. ثم أمر المنادي أن ينادي في الوطاقات والأسواق ألا أن الصلح قد انتظم في سائر بلادهم فمن شاء من بلادهم أن يدخل إلى بلادنا فليفعل ومن شاء من بلادنا أن يدخل إلى بلادهم فيفعل وأشار رحمة الله عليه أن طريق الحج قد فتح من الشام ووقع له عزم على الحج في ذلك المجلس وكنت حاضراً ذلك جميعه وأمر السلطان أن تسير مائة نقاب لتخريب سور عسقلان معهم أمير كبير ولإخراج الإفرنج منها ويكون معهم جماعة من الإفرنج إلى حين وقوع الخراب في السور خشية استبقائه عامراً. وكان يوماً مشهوداً غشي الناس من الطائفتين فيه من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى والله العظيم إن الصلح لم يكن من إيثاره فإنه قال لي في بعض محاوراته في الصلح أخاف أن أصالح وما أدري أيّ شيء يكون مني فيقوى هذا العدو وقد بقيت لهم هذه البلاد فيخرجوا لاسترداد بقية بلا دهم ونرى كل واحد من هؤلاء الجماعة قد قعد في رأس قلعته يعني حصنه وقال لا أنزل فيهلك المسلمون. هذا كلامه وكان كما قال لكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر وتظاهرهم بالمخالفة وكانت مصلحة في علم الله تعالى فإنه اتفقت وفاته بعيد الصلح ولو كان اتفق ذلك في أثناء الوقعات لكان الإسلام على خطر فما كان الصلح إلاّ توفيقاً وسعادة له. ولما كان الخامس والعشرون من شعبان ندب السلطان علم الدين قيصر إلى خراب عسقلان وسيّر معه جماعة من النقابين والحجارين واستقر أن الملك ينفذ من يافا من يسير معه ليقف على التخريب ويخرج الإفرنج منها فوصلوا إليها من الغد فلما أرادوا التخريب اعتذر الأجناد الذين بها بأن لنا على الملك جانكية لمدة فإما أن يدفعها إلينا ونخرج أو ادفعوها أنتم إلينا فوصل بعد ذلك رسول الملك يأمرهم بالخروج فخرجوا ووقع التخريب فيها في السابع والعشرين من شعبان واستمر يخربها وكتب على الجماعة رقاعاً بالمعاونة على التخريب وأعطى كل واحد قطعة معلومة في السور وقيل له دستورك في تجريبها. ولما كان التاسع والعشرون رحل السلطان إلى النطرون واختلط العسكران وذهب جماعة من المسلمين إلى يافا في طلب التجارة ووصل خلق عظيم من العدو إلى القدس للحج وفتح لهم السلطان الباب وأنفذ معهم الخفراء يحفظونهم حتى يردهم إلى يافا وكثر ذلك من الإفرنج وكان غرض السلطان بذلك أن يقضوا غرضهم من الزيارة ويرجعوا إلى بلا دهم فيأمن المسلمون من شرهم. ولما علم الملك كثرة من يزور منهم صعب عليه ذلك وسير إلى السلطان يسأله منع الزوار واقترح أن لا يؤذن لهم إلا بعد حضور علامة من جانبه أو كتابة وعلمت الإفرنج ذلك فعظم عليهم واهتموا في الحج فكان يرد منهم في كل يوم جموع كثيرة مقدمون وأسباط وملوك متنكرون وشرع السلطان في إكرام من يرد ومد الطعام ومباسطتهم ومحادثتهم وعرفهم إنكار الملك ذلك واعتذر إلى الملك بأن قوماً قد وصلوا من بعد ذلك لزيارة المكان الشريف فلا أستحل منعهم ثم اشتد المرض بالملك فرحل في ليلة التاسع والعشرين وسار هو والكندهري وسائر العدو إلى ذكر عود العساكر الإسلامية إلى أوطانهم ولما انقضى هذا الأمر واستقرت القواعد أعطى السلطان الناس دستوراً وكان أول من سار عسكر إربل فإنه سار في مستهل شهر رمضان المبارك ثم سار بعده في ثانية عسكر الموصل وسنجار والحصن أشاع أمر الحج وقوى عزمه على براءة الذمة وكان هذا مما وقع لي وبدأت بالإشارة به فوقع منه موقعاً عظيماً وأمر الديوان وكل من عزم على الحج من العسكر أن يثبت اسمه حتى يحصر عدة من يدخل معنا في الطريق وكتب جرائد بما يحتاج إليه في الطريق من الخلع والأزواد وغيرها وسيرها إلى البلاد ليعدوها. ولما أعطى الناس دستوراً وعلم عود العدو رجع إلى ورائه رأى الدخول إلى القدس الشريف لتهيئة أسباب عمارته والنظر في مصالحه والتأهب في المسير إلى الحج فرحل من النطرون يوم الأحد رابع يوم شهر رمضان وسار حتى أتى ماء صمويل يفتقد الملك العادل فوجده قد سار إلى القدس وقد كنت عنده رسولاً من جانب السلطان أنا والأمير بدر الدين دلدرم والعدل وكان قد انقطع عن أخيه بسبب مرضه وكان قد تماثل فعرفناه مجيء السلطان إلى ماء صمويل لعيادته فحمل على نفسه وسار معنا حتى لقيه في ذلك المكان وهو أول وصوله إلى ماء صمويل ولم ينزل بعد فلقيه ونزل وقبّل الأرض وعاد فركب فاستدناه وسأله عن مزاجه وسار جميعاً حتى أتيا القدس الشريف في بقية ذلك اليوم. ولما كان يوم الجمعة الثالث والعشرون من شهر رمضان صلّى الملك العادل الجمعة وانصرف إلى الكرك عن دستور من السلطان لينظر في أحواله ويعود إلى البلاد الشرقية يدبّرها فإنه كان قد أخذها من السلطان وكان قد ودّع السلطان فلما وصل العازرية نزل بها مخيماً فوصله من أخبر أن رسولاً من بغداد واصل إليك فأنفذ إلى السلطان وعرفه فذكر له أن يجتمع ويطالع ما وصل فيه فلما كان السبت الرابع والعشرون دخل إلى الخدمة السلطانية وذكر أن الرسول قد وصل إليه من جانب ابن النافذ بعد أن ولي نيابة الوزارة ببغداد ومقصود الكتاب أنه يحثه على استعطاف قلب السلطان إلي لخدمة الشريفة والدخول بينه وبين الديوان العزيز والإنكار عليه بتأخر رسله عن العتبة الشريفة واقتراح تسيير القاضي الفاضل ليحضر الديوان العزيز في تقرير قاعدة تتحرر بينه وبين السلطان لا بد منها وقد وعد الملك العادل من الديوان بوعود عظيمة إذا قرر ذلك ويكون له يد عند الديوان يستثمرها فيما بعد وما يشبه هذا الفن فحدثت عند السلطان فكرة في إنفاذ رسول يسمع كلام الديوان ويستعلم سبب دخول الملك العادل في البين وزاد الحديث ونقص وطال وقصر وقوي العزم السلطاني على إنفاذ الضياء الشهرزوري وعاد الملك العادل إلى مخيمه بالعازرية بعد تقرير هذه القاعدة وعرفه إجابة السلطان إلى إنفاذ رسول إلى خدمة الديوان العزيز وسار يوم الاثنين طالباً جهة الكرك وسار الضياء متوجهاً إلى بغداد يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر رمضان. ووحشة السلطان له ولما كانت بكرة التاسع والعشرين توجه الملك الظاهر عز نصره بعد أن ودعه ونزل إلى الصخرة فصلى عندها وسأل الله تعالى ما شاء ثم ركب وركبت في خدمته فقال لي قد تذكرت أمراً أحتاج فيه إلى مراجعة السلطان مشافية فأنفذ من استأذن له العود إلى خدمته فأذن له في ذلك فحضر واستحضرني وأخلى المكان ثم قال له: أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها فإن الدم لا ينام وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم فأنت أميني وأمين الله عليهم وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد واحذر ما بينك وبين الناس فإنه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم. وكان ذلك بعد انصرفنا من خدمته ومضى من الليل ما شاء الله إن يمضي وهذا ما أمكنني حكايته وضبطه ولم يزل بين يديه إلى قريب السحر ثم أذن له في الانصراف ونهض ليودعه فقبل وجهه ومسح رأسه وانصرف في دعة الله ونام في برج الخشب الذي للسلطان وكنا نجلس عنده في الأحياء إلى بكرة وانصرفت في خدمته إلى بعض الطريق وودعته وسار في حفظ الله. ثم سير الملك الأفضل ثقله وأقام يراجع السلطان على لساني في أشغال كانت له حتى دخل في شوال أربعة أيام وسار في ليلة الخامس منه نصف الليل عن تعتب عليه جريدة على طريق الغور. وأقام السلطان يقطع الناس ويعطيهم دستوراً ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية وانقطع شوقه عن الحج وكان من أكبر المصالح التي فاتته ولم يزل كذلك حتى صح عنده إقلاع مركب الأنكتار متوجهاً إلى بلاده مستهل شوال فعند ذلك حرر السلطان عزمه على أن يدخل الساحل جريدة ويفتقد القلاع البحرية إلى بانياس ويدخل دمشق المحروسة يقيم بها أياماً قلائل ويعود إلى القدس الشريف سائراً إلى الديار المصرية يتفقد أحوالها ويقرر قواعدها وينظر في مصالحها وأمرني بالمقام في القدس الشريف لعمارة بيمارستان أنشأه فيه وإدارة المدرسة التي أنشأها فيه إلى حين عوده وسار من القدس الشريف ضحوة نهار الخميس سادس شوال وودعته إلى البيرة ونزل بها وأكل فيها طعاماً ثم أتى بعض طريق نابلس فبات فيه ثم أتى نابلس ضحوة نهار الجمعة سابع شوال فلقيه خلق عظيم يستغيثون من المشطوب ويتضورون من سوء رعايته لهم فأقام يكشف عن أحوالهم إلى عصر يوم السبت ثم رحل ونزل بسبصطية يتفقد أحوالها ثم أتى في طريقه إلى كوكب ونظر في أحوالها وسد خللها وذلك في يوم الاثنين عاشره. وكان فكاك بهاء الدين قراقوش من ربقة الأسر يوم الثلاثاء حادي عشر شوال ومثل في الخدمة السلطانية ففرح به فرحاً شديداً وكانت له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام واستأذن السلطان في المسير إلى تحصيل القطيعة فأذن له في ذلك وكانت القطيعة على ما بلغني ثمانين ألفاً والله أعلم. ولما وصل السلطان إلى بيروت وصل إلى خدمته البرنس صاحب أنطاكية مسترفداً فبالغ في احترامه وإكرامه ومباسطته وأنعم عليه بالعمق وزرعان ومزارع تبلغ خمسة عشر ألف دينار. وكان قد خلف المشطوب في القدس من جملة العسكر المقيمين به ولم يكن واليه وإنما كان واليه عز الدين جرديك وكان ولاه بعد الصلح حالة عوده إلى القدس بعد أن شاور فيه الملك العادل والملك الأفضل والملك الظاهر على لساني وأشار به أهل الدين والصلاح لأنه كان كثير الجد والخدمة والحفظ لأهل الخير فأمرني السلطان أن أوليه ذلك في يوم الجمعة عند الصخرة ووليته إياه بعد صلاة الجمعة واشترطت عليه الأمانة وعرفته موضع حسن اعتقاد السلطان فيه وانعقد الأمر وقام به القيام المرضي. وأما المشطوب فإنه كان مقيماً بالقدس من جملة من كان مقيماً بها وتوفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال ودفن في داره بعد أن صلى عليه في المسجد الأقصى رحمه الله. ذكر عود السلطان إلى دمشق المحروسة وكان عوده إليها بعد الفراغ من تصفح أحوال القلاع الساحلية بأسرها والتقدم بسد خللها وإصلاح أمور أجنادها وشحنها بالأجناد والرجال ودخل دمشق بكرة الأربعاء السادس والعشرين من شوال وفيها أولاد الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر وأولاده الصغار وكان يحب البلد ويؤثر الإقامة فيه على سائر البلاد وجلس للناس في بكرة الخميس السابع والعشرين منه وحضر الناس عنده وبلوا شوقهم من رؤيته وأنشده الشعراء وعم ذلك المجلس الخاص والعام وأقام ينشر جناح عدله. ويهطل سحاب إنعامه وفضله ويكشف مظالم الرعايا في الأوقات المعتادة حتى كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة اتخذ الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر فإنه لما وصل إلى دمشق بلغه حركة السلطان إليها فأقام حتى يتملى بالنظر إليه ثانياً وكأن نفسه الشريفة كانت قد أحست بدنو أجل السلطان فودعه في تلك الليلة مراراً متعددة وهو يعود إليه. ولما اتخذ الملك الأفضل له دعوة أظهر فيها من بديع التجمل وغريهه ما يليق بهمته وكأنه أراد مجازاته عما خدمه به حين وصوله إلى حلب وحضرها أرباب الدنيا وأبناء الآخرة وسأل السلطان الحضور فحضر جبراً لقلبه. ولما تصفح الملك العادل أخبار الكرك وأمر بإصلاح ما قصد إصلاحه منه عاد طالباً البلاد الفراتية فوصل أرض دمشق يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وكان السلطان قد خرج إلى لقائه وأقام يتصيد حوالي عباب إلى الكسوة حتى لقيه وسارا جميعاً وكان دخولهما دمشق آخر نهار الأحد الحادي والعشرين وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه وأولاده ويتفرجون في أرض الشام وموطن الظباء وكأنه وجد راحة مما كان فيه من ملازمة التعب وسهر الليل ونصب النهار وما كان ذلك إلا كالوداع لأولاده ومرابع تنزهه وهو لا يشعر ونسي عزمه المصري وعرضت له أمور أخرى وعزمات غير ذلك ووصلني كتابه إلى القدس يستدعيني إلى خدمته وكان شتاءً شديداً ووحل عظيم فخرجت من القدس الشريف في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة تسع وثمانين وكان الوصول إلى دمشق يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر سنة تسع وكان وصل أوائل الحج على طريق دمشق واتفق حضوري والملك الأفضل حاضر في الإيوان الشمالي وفي خدمته خلق من الأمراء وأرباب المناصب ينتظرون جلوس السلطان لخدمته فلما شعر بحضوري استحضرني وهو وحده قبل أن يدخل إليه أحد فدخلت عليه فقام ولقيني لقاءً ما رأيت أشد من بشره بي فيه ولقد ضمني إليه ودمعت عينه. ذكر لقائه للحجاج ولما كان يوم الأربعاء ثالث عشر صفر طلبني فحضرت عنده فسألني عمن في الإيوان فأخبرته أن الملك الأفضل جالس في الخدمة والأمراء والناس في خدمته فاعتذر إليهم على لسان جمال الدولة إقبال. ولما كانت بكرة الخميس استحضرني فحضرت عنده في صفة البستان وعنده أولاده الصغار فسأل عن الحاضرين فقيل له رسل الإفرنج وجماعة الأمراء والأكابر فاستحضر رسل الإفرنج إلى ذلك المكان فحضروا وكان له ولد صغير وكان كثيراً ما يميل إليه يسمى الأمير وكان حاضراً وهو يداعبه فلما وقع بصره على الإفرنج ورأى أشكالهم وحلق لحاهم وقص شعورهم وما عليهم من الثياب غير المألوفة خاف منهم وبكى فاعتذر إليهم وصرفهم بعد أن حضروا ولم يسمع كلامهم وقال إن لي اليوم شغلاً وكان عادته المباسطة ثم قال أحضروا لنا ما تيسر فأحضروا أرزاً بلبن وما شابه ذلك من الأطعمة الخفيفة فأكل وكنت أظن أنه ما عنده شهوة وكان في هذه الأيام يعتذر إلى الناس لثقل الحركة عليه وكان بدنه ملتاثاً ممتلئاً وعنده كسل فلما فرغنا من الطعام قال ما الذي عندك من خبر الحاج فقلت اجتمعت بجماعة منهم في الطريق ولولا كثرة الوحل لدخلوا اليوم ولكنهم غداً يدخلون. فقال نخرج إن شاء الله إلى لقائهم وتقدم بتنظيف طرقاتهم من المياه فإنها سنة كثيرة الأنداء وقد سالت المياه في الطرق والأنهار. وانفصلت من خدمته ولم أجد عنده من النشاط ما كنت أعرفه ثم ركب في بكرة الجمعة وتأخرت عنه قليلاً ثم لقيته وقد لقي الحاج وكان فيهم سابق الدين وقرالاً الياروقي وكان كثير الاحترام للمشايخ فلقيهم ثم لحقه الملك الأفضل وأخذ يحدثني فنظرت إلى السلطان فلم أجد عليه كزاغنده وما كان له عادة بركب بدونه وكان يوماً عظيماً قد اجتمع فيه للقاء السلطان والتفرج عليه معظم من في البلد فلم أجد الصبر دون أن سرت إلى جانبه وحدثته في إهمال هذا فكأنه استيقظ فطلب الكزاغند فلم يوجد الزرد كماش فوجدت لذلك أمراً عظيماً وقلت في نفسي السلطان يطلب ما لا بد منه في عادته ولا يجده ووقع في قلبي تطير بذلك فقلت له أليس ثم طريق نسلكه ليس فيه خلق كثير فقال بلى ثم سار بين البساتين فطلب جهة المنيع وسرنا في خدمته وقلبي يرعد لما قد وقع فيه من الخوف عليه فسار حتى أتى القلعة فعبرا على الجسر إلى القلعة وهو طريقه المعتاد وكانت آخر ركوبه. ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً فما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية كانت في باطنه أكثر من ظاهره وأصبح في يوم السبت سادس عشر صفر سنة تسع وثمانين متكسلاً عليه أثر الحمى ولم يظهر ذلك للناس لكن حضرت أنا والقاضي الفاضل ودخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو من قلقه في الليل وطال به الحديث إلى قريب الظهر ثم انصرفنا والقلوب عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة الملك الأفضل ولم يكن القاضي عادته ذلك فانصرف ودخلت أنا إلى الإيوان وقد مد الطعام والملك الأفضل قد جلس في موضعه فانصرفت وما كان لي قوة على الجلوس استيحاشاً وبكى جماعة تفاؤلاً بجلوس ولده في موضعه ثم أخذ المرض في تزايد من حينئذ ونحن نلازم التردد طرفي النهار وندخل إليه أنا والقاضي الفاضل في النهار مراراً ويعطي الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خفة وكان مرضه في رأسه وكان من أمارات انتهاء العمر إذ كان قد ألف مزاجه سفراً وحضراً ورأى الأطباء قصده فقصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلّت رطوبات بدنه وكان يغلب عليه اليبس غلبة عظيمة ولم يزل المرض يتزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف. ولقد جلسنا في سادس مرضه وأسندنا ظهره إلى مخدة وأحضر ماءً فاتراً ليشرب عقيب شرب دواء لتليين الطبيعة فشربه فوجده شديد الحرارة فشكا من شدة حرارته وعرض عليه ماء ثان فشكا من برده ولم يغضب ولم يصخب ولم يقل سوى هذه الكلمات: سبحان الله ألا يمكن أحداً تعديل الماء. فخرجت أنا والقاضي الفاضل من عنده وقد اشتد بنا البكاء والقاضي الفاضل يقول لي: أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها والله لو أن هذا بعض الناس لضرب بالقدح رأس من أحضره. واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه. ولما كان التاسع حدثت عليه غشية وامتنع من تناول المشروب فاشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا الأقمشة من الأسواق وغشي الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته. ولقد كنت أنا والقاضي الفاضل نقعد في كل ليلة إلى أن يمضي من الليل ثلثه أو قريب منه ثم نحضر في باب الدار فإن وجدنا طريقاً دخلنا وشاهدناه وانصرفنا وإلا عرفونا أحواله من وكنا نجد الناس يترقبون خروجنا إلى أن يلاقونا حتى يعرفوا أحواله من صفحات وجوهنا. ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وحصل من الحقن راحة وحصل بعض خفة وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً وفرح الناس فرحاً شديداً فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيع ثم أتينا إلى الدار فوجدنا جمال الدولة إقبالاً فالتمسنا منه تعريف الحال المستجد فدخل وأنفذ إلينا مع الملك المعظم تورانشاه جبره الله تعالى أن العرق قد أخذ في ساقيه فشكرنا الله تعالى على ذلك والتمسنا منه أن يمس بقية قدمه ويخبرنا بحاله في العرق فتفقده ثم خرج إلينا وذكر أن العرق سابغ وانصرفنا طيبة قلوبنا ثم أصبحنا في الحادي عشر من مرضه وهو السادس والعشرين من صفر فحضرنا بالباب وسألنا عن الأحوال فاخبرنا بأن العرق أفرط حتى نفذ في الفراش ثم في الحصر وتأثرت به الأرض وأن اليبس قد تزايد تزيداً عظيماً وحارت في القوة الأطباء. ولما رأى الملك الأفضل ما حل بوالده وتحقق الناس من موته تسرع في تحنف الناس في دار رضوان المعرفة بسكناه واستحضر القضاة وعمل له نسخة يمين مختصرة محصلة للمقاصد تتضمن الحلف للسلطان مدة حياته وله بعد وفاته واعتذر إلى الناس بأن المرض قد اشتد وما يعلم ما يكون وما يفعل هذا إلا احتياطاً على جاري عادة الملوك فأول من استحضر للحلف سعد الدين أخو بدر الدين مودود الشحنة فبادر إلى اليمن من غير شرط ثم حضر ناصر الدين صاحب صهيون وذاد أن الحصن الذي في يده له وسابق الدين صاحب شيزر فحلف ولم يذكر الطلاق واعتذر بأنه ما حلف به. ثم حضر خشتر بن حسين الهكاوي وحلف. وحضر أنوشروان الزرزاري وحلف واشترط أن يكون له خبز يرضيه. وحضر علكان وملكان وحلفا ثم مد الخوان وحضر الجماعة وأكلوا. ولما كان العصر أعيد المجلس للتحلف وحضر ميمون القصري رحمه الله وشمس الدين الكبير وقالا نحلف بشرط أن لا نسل في وجه أحد من أخوتك سيفاً لكن رأسي دون بلادك. هذا قول ميمون القصري. وأما سنقر فإنه امتنع ساعة ثم قال: كنت خلفتني على النطرون وأنا عليها وحضر سامه وقال ليس لي خبز فقل لي على أي شيء أحلف. فرجع وحلف وعلق يمينه بشرط أن يعطى خبزاً يرضيه. وحضر سنقر المشطوب وحلف واشترط أن يرضى. وحضر أيبك الأفطس رحمه الله واشترط رضاه. وحضر حسام الدين بشارة وحلف وكان مقدماً على هؤلاء ولم يحضر أحد من الأمراء المصريين ولم يتعرض لهم بل حلف هؤلاء للتقرير. ونسخة اليمين المحلوف بها مضمونها أني من وقتي هذا صفيت نيتي. وأخلصت طويتي. للملك الناصر مدة حياته وأني لا أزال باذلاً جهدي في الذب عن دولته بنفسي ومالي وسيفي ورجالي ممتثلاً أمره واقفاً عند مراضيه. ثم من بعده لولده الأفضل علي ووريثه. ووالله إنني في طاعته وأذب عن دولته وبلاده بنفسي ومالي وسيفي ورجالي وأمتثل أمره ونهيه وباطني وظاهري في ذلك سواء والله على ما أقول وكيل. وقدس روحه ولما كانت ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من صفر وهي الثانية عشرة من مرضه اشتد مرضه وضعفت قوته ووقع من الأمر في أوله وحال بيننا وبينه النساء واستحضرت أنا والقاضي الفاضل تلك الليلة وابن الزكي ولم يكن عادته الحضور في ذلك الوقت وحضر بيننا الملك الأفضل وأمر أن نبيت عنده فلم ير القاضي الفاضل ذلك رأياً فإن الناس كانوا ينتظرون نزولنا من القلعة فخاف إن لم ننزل أن يقع الصوت في البلد وربما نهب الناس بعضهم بعضاً فرأى المصلحة في نزولنا واستحضار الشيخ أبي جعفر إمام الكلاسة وهو رجل صالح ليبيت بالقلعة حتى إذا أحضر رحمه الله بالليل حضر عنده وحال بينه وبين النساء وذكره الشهادة وذكر الله تعالى ففعل ذلك ونزلنا وكل منا يود فداءه بنفسه وبات في تلك الليلة على حال المنتقلين إلى الله تعالى والشيخ أبو جعفر يقرأ عنده القرآن ويذكر الله تعالى وكان ذهنه غائباً من ليلة التاسع لا يكاد يفيق إلا في أحيان. وذكر الشيخ أبو جعفر أنه لما انتهى إلى قوله تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة. سمعه وهو يقول رحمة الله عليه: صحيح. وهذه يقظة في وقت الحاجة وعناية من الله تعالى به فلله الحمد على ذلك. وكانت وفاته بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسعة وثمانين وخمسمائة وبادر القاضي الفاضل بعد طلوع الصبح في وقت وفاته ووصلت وقد مات وانتقل إلى رضوان الله ومحل كرمه وجزيل ثوابه ولقد حكي لي أنه لما بلغ الشيخ أبو جعفر إلى قوله تعالى: لا إله إلا هو عليه توكلت. تبسم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه وكان يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم وما سمعت هذا الحديث إلا على ضرب من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم فإني علمت من ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالي وحفظ باب القلعة إلا عن الخواص من الأمراء والمعممين وكان يوماً عظيماً وقد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة من أن ينظر إلى غيره وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فاضل وواعظ. وكان أولاده يخرجون مستغيثين إلى الناس فتكاد النفوس تزهق لهول منظرهم. ودام الحال على هذا إلى ما بعد صلاة الظهر. ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه فما أمكننا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي بلت الطين وغسله الدولعي الفقيه ونهضت إلى الوقوف على غسله فلم تكن لي قوة تحمل ذلك المنظر وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط. وكان ذلك وجميع ما احتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجه حل عرفه وارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم من الضجيج والعويل ما شغلهم عن الصلاة فصلى عليه الناس أرسالاً وكان أول من أم بالناس القاضي محيي الدين ابن الزكي ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وكان متمرضاً بها ودفن في الصفة الغربية منها. وكان نزوله في حفرته قدس الله روحه ونوّر ضريحه قريباً من صلاة العصر ثم نزل في أثناء النهار ولده الملك الظافر وعزى الناس فيه وسكن قلوب الناس وكان الناس قد شغلهم البكاء عن الإشغال بالنهب والفساد فما وجد قلب إلا حزين ولا عين إلا باكية إلا من شاء الله. ثم رجع الناس إلى بيوتهم أقبح رجوع ولم يعد أحد منهم في تلك الليلة إلا نحن حضرنا وقرأنا وجددنا حالاً من الحزن. واشتغل في ذلك اليوم الملك الأفضل بكتابة الكتب إلى عمه وأخواته يخبرهم بهذا الحادث. وفي اليوم الثاني جلس للعزاء جلوساً عاماً وأطلق باب القلعة للفقهاء والعلماء وتكلم المتكلمون ولم ينشد شاعر ثم انفض المجلس في ظهر ذلك اليوم واستمر الحال في حضور الناس بكرة وعشية وقراءة القرآن والدعاء له رحمة الله عليه واشتغل الملك الأفضل بتدبير أمر ومراسلة أخوته وعمه. ثم انقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحلام تم بعون الله والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
|