الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية **
وذلك أنّ السلطان رأى أن نعمة الله عليه باستقرار قدمه في الملك وتمكين الله إياه في البلاد وانقياد الناس لطاعته ولزومهم قانون خدمته ليس لها شكر سوى الاشتغال ببذل الجهد والاجتهاد إلى إقامة قانون الجهاد فسير إلى سائر العساكر واستحضرها واجتمعوا إليه بعشترا في التاريخ المذكور وعرضهم ورتبهم واندفع قاصداً نحو بلاد العدو المخذول في نهار الجمعة سابع عشر ربيع الآخر وكان أبداً يقصد بوقعاته الجمع سيّما أوقات صلاة الجمعة تبرّكاً بدعاء الخطباء على المنابر فربّما كانت أقرب إلى الإجابة فسار في ذلك الوقت على تعبية الحركة وكان بلغه أن العدو لما بلغهم أنه قد جمع العساكر اجتمعوا بأسرهم في مرج صفورية بأرض عكا وقصدوا نحو المصاف معهم فسار ونزل من يومه على بحيرة طبرية عند قرية تسمى الصبيرة ورحل من هناك ونزل غربي طبرية على سطح الجبل بتعبية الحرب منتظراً أن الإفرنج إذا بلغهم ذلك قصدوه فلم يتحركوا من منزلهم وكان نزوله في هذه المنزلة يوم الأربعاء الحادي والعشرين فلما رآهم لا يتحركون نزل جريدة على طبرية وترك الأطلاب بحالها قبالة وجه العدو ونازل طبرية وزحف عليها فهجمها وأخذها في ساعة من نهار وامتدت الأيدي إليها بالنهب والأسر والحريق والقتل واحتمت القلعة وحدها. ولما بلغ العدو ما جرى على طبرية لم يأخذهم الصبر دون إجابة الحمية فرحلوا من وقتهم وساعتهم وقصدوا طبرية للدفع عنها فأخبرت الطلائع الإسلامية الأمراء بحركة الإفرنج فسيروا إلى السلطان من عرّفه ذلك فترك على طبرية من يحفظ قلعتها ولحق العسكر هو ومن معه فالتقى العسكران على سطح جبل طبرية الغربي منها وذلك في أواخر الخميس الثاني والعشرين وحال الليل بين الفئتين فتبايتا على مصاف شاكي السلاح إلى صبيحة الجمعة في الثالث والعشرين فركب العسكران وتصادما وعملت الجاليشية وتحركت الأطلاب والتحم القتال واشتد الأمر وذلك بأرض قرية تسمى اللوبيا وضاق الخناق بالقوم هذا وهم سائرون كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وقد أيقنوا بالويل والثبور. وأحست أنفسهم أنهم في غد زوّار القبور. ولم يزل الحرب يلتحم. والفارس مع قرنه يصطدم. حتى لم يبق إلاّ الظفر. ووقع الوبال على من كفر. فحال بينهما الليل وظلامه وجرى في ذلك اليوم من الوقائع العظيمة والأمور الجسيمة ما لم يحك عمّن تقدم وبات كل فريق في سلاحه ينتظر خصمه في كل ساعة وقد أقعده التعب عن النهوض. وشغله النصب عن الحبو فضلا عن الركوض. حتى كان صباح السبت الذي بورك فيه فطلب كل من الفريقين مقامه وعلمت كل طائفة أن المكسورة بينهما مدحورة الجنس معدومة النفس. وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد القوم وأن لا ينجيهم إلاّ الله تعالى وكان الله قدّر نصر المؤمنين ويسّره. وأجراه على وفق ما قدّره. فحملت الأطلاب الإسلامية من الجوانب وحمل القلب وصاحوا صيحة الرجل الواحد فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين. وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين. وكان القومص ذكي القوم وأطغاهم فرأى أمارات الخذلان قد نزلت بأهل دينه ولم يشغله ظن محاسنة حبسه عن تعبية فهرب في أوائل الأمر قبل اشتداده وأخذ طريقه نحو صور وتبعه جماعة من المسلمين فنجا وحده. وأمن الإسلام كيده واحتاط أهل الإسلام بأهل الكفر والطغيان من كل جانب وأطلقوا عليهم السهام وعاملوهم بالصفاح وانهزمت منهم طائفة فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها واحد واعتصمت الطائفة الأخرى بتل يقال له تل حطين وهي قرية عنده وعندها قبر شعيب عليه الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء فضايقهم المسلمون على التل وأشعلوا حواليهم النيران وقتلهم العطش وضاق بهم الأمر حتى كانوا يستسلمون للأسر خوفا من القتل فأسر مقدموهم وقتل الباقون وأسروا وكان فيمن سلم وأسر من مقدميهم: الملك جفري والبرنس أرناط وأخو الملك والبرنس هو صاحب الشوبك وابن الهنغري وابن صاحب طبرية ومقدم الداوية وصاحب حبيل ومقدم الأسبتار وأما الباقون من المقدمين فإنهم قتلوا وأما الأذوان فإنهم قسموا إلى قتيل وأسير ولم يسلم منهم إلاّ من أسر وكان الواحد العظيم منهم يخلد إلى الأسر خوفاً على نفسه ولقد حكى لي من أثق به أنه لقي بحوران شخصاً واحداً معه طنب خيمة فيه نيف وثلاثون أسيرا أخذهم وحده لخذلان وقع عليهم. فأما الذين بقوا من مقدميهم فنذكر حديثهم. أما القومص الذي هرب فإنه وصل إلى طرابلس وأصابته ذات الجنب فأهلكه الله بها. وأما مقدم الأسبتار والداوية فإن السلطان اختار قتلهم فقتلوا عن بكرة أبيهم. وأما البرنس أرناط فكان السلطان قد نذر أنه إذا ظفر به قتله وذلك أنه كان عبر به بالشوبك قافلة من الديار المصرية في حالة الصلح فنزلوا عنده بالأمان فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الله والصلح الذي بينه وبين المسلمين فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبلغ ذلك السلطان فحمله الدين والحميّة على أنه نذر إن ظفر به قتله. ولما فتح الله بالنصر والظفر جلس السلطان في دهليز الخيمة فإنها لم تكن نصبت والناس يتقربون إليه بالأسرى ومن وجدوه من المقدمين ونصبت الخيمة وجلس فرحاً مسروراً لما أنعم الله به عليه ثم استحضر الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط وناول الملك جفري شربة من حلاب بثلج فشرب منها وكان على أشدّ حال من العطش ثم ناول بعضها البرنس أرناط فقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته وأما أنا فما سقيته وكان على عادة جميل العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل وشرب من ماء لمن أسره أمن بذلك جرياً على مكارم الأخلاق ثم أمرهم بمسيرهم إلى موضع عين لنزولهم فمضوا وأكلوا شيئا ثم عادوا فاستحضرهم ولم يبق عنده سوى بعض الخدم وأقعد الملك في الدهليز واستحضر البرنس أرناط وأوقفه على ما قال وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد عليه الصلاة والسلام ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل ثم حمل النمجاة وضربه بها فحل كتفه وتمم عليه من حضر وعجّل الله بروحه إلى النار فأخذ ورمي على باب الخيمة فلما رآه الملك قد خرج به على تلك الصورة لم يشك أنه يشي به فاستحضره وطيّب قلبه وقال: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز حدّه فجرى ما جرى. وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور وأكمل حبور ترتفع أصواتهم بالحمد لله والشكر له والتكبير والتهليل حتى طلع الصبح في يوم الأحد وتسلّم قدّس الله روحه في بقية ذلك اليوم قلعة طبرية وأقام بها إلى يوم الثلاثاء. ثم رحل طالباً عكا وكان نزوله عليها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر وقاتلها يوم الخميس مستهل جمادى الأولى فأخذ واستنقذ من كان فيها من الأسارى وكانوا زهاء أربعة آلاف نفر واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع والتجائر فإنها كانت مظنة التجار وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة وأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وكان ذلك لخلوّها عن الرجل بالفتك والأسر ولما استقرت قواعد عكا واقتسم الغانمون أموالها وأساراها سار يطلب تبتين فنزل عليها يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق عليها بالزحف الخناق وكان بها رجال أبطال شديدون في دينهم فاحتاجوا إلى معاناة شديدة ونصره الله عليهم وتسلمها ثامن عشر عنوة وأسر من بقي بها بعد القتل ثم رحل منها إلى صيدا فنزل عليها ومن الغد تسلمها وأقام عليها بحيث قرر قاعدتها. ثم سار حتى أتى بيروت فنازلها في الثاني والعشرين فركب عليها القتال والزحف وضيق عليهم الأمر حتى أخذها في التاسع والعشرين وتسلم أصحابه حبيلا وهو على بيروت. ولما فرغ باله من هذا الجانب رأى قصد عسقلان ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها ومارسها لأن العسكر كان قد تفرق في الساحل وذهب كل إنسان يأخذ لنفسه شيئا وكانوا قد ضرسوا من القتال وملازمة الحرب وكان قد اجتمع في صور كل إفرنجي بقي في الساحل فرأى قصد عسقلان لأن أمرها كان أيسر ونازلها في السادس والعشرين من جمادى الآخرة وتسلم في طريقه مواضع كثيرة كالرملة وبينا والدارون وأقام عليها المنجنيقات وقاتلها قتالا شديداً وتسلمها سلخ هذا الشهر وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبرين والنطرون بغير قتال وحمان بين فتوح عسقلان وأخذ الإفرنج لها من المسلمين خمسة وثلاثون سنة فإنّ العدوّ ملكها في سبعة وعشرين من جمادى الأخرى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. ولما تسلم عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمّر عن ساق الجدّ والاجتهاد في قصده واجتمعت عليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل بعد انقضاء لبانها من النهب والغارة فسار نحوه معتمداّ على الله معوضاً أمره إليه منتهزاً فرصة فتح باب الخير الذي حثّ عليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله: من فتح باب خير فلينتهز بأنه لا يدري متى يغلق دونه وكان نزوله عليها في الخامس عشر من رجب سنة ثلاثة وثمانين المباركة فنزل في الجانب الغربي وكان مشحوناً بالمقاتلة والخيانة والرجالة. ولقد تحازر أهل الخبرة عدة من كان فيه من المقاتلة بما يزيد على ستين ما عدا النساء والصبيان. ثم انتقل رحمه الله لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي ونصب عليه المناجيق وضايقه بالزحف والقتال وكثرة الرماة حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم في قرنة شمالية. ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا يندفع عنهم وظهرت لهم أمارات نصرة الحق على الباطل وكان قد ألقى في قلوبهم الرعب مما جرى على أبطالهم ورجالهم من السبي والقتل والأسر وما جرى على حصونهم من الاستيلاء والأخذ علموا أنهم إلى ما صاروا إليه صائرون. وبالسيف الذي قتل به إخوانهم مقتولون فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان واستقرت القاعدة بالمراسلة بين الطائفتين وكان تسلمه القدس قدس الله روحه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلة كانت المعراج المنصوص عليها في القرآن المجيد. فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسّر الله عوده إلى أيدي المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى وكان فتوحاً عظيماً شهده من أهل العلم خلق عظيم ومن أرباب الحرف والطرق وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسّر الله على يده من فتوح الساحل وشاع قصده القدس قصده العلماء من مصر ومن الشام بحيث لم يتخلف معروف من الحضور وارتفعت الأصوات بالضجيج والدعاء والتهليل والتكبير وخطب فيه وصليت فيه الجمعة يوم فتحه. وحطّ الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلا عظيما ونصر الله الإسلام نصر عزيز مقتدر. وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرة دنانير وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكر أو أنثى ديناراً واحداً فمن أحضر القطيعة سلم نفسه وإلا أخذ أسيراً أو فرج الله عمن كان أسيراً من المسلمين وكان خلقاً عظيماً زهاء ثلاثة آلاف أسير وأقام رحمه الله يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والعلماء وإيصال من دفع قطيعته منهم إلى مأمنه وهو صور. ولقد بلغني أنه رحل عن القدس ولم يبق له من ذلك الملك شيء وكان مائتي ألف دينار وكان رحيله يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان. ولما ثبت قدم السلطان بملك القدس والساحل قويت نفسه على قصد صور وعلم أنه إن أخر أمرها ربما اشتد فرحل سائراً إليها حتى عكا فنزل عليها ونظر في أحوالها ثم رحل متوجهاً إلى صور يوم الجمعة خامس شهر رمضان وسار حتى أشرف عليها ونزل قريباً منها ينتظر وصول آلات القتال وكان لما تحرر عزمه على قصد صور سير إلى ولده الملك الظاهر يستحضره وكان قد تركه بحلب ليسد ذلك الجانب لاشتغاله هو بأمر الساحل فقدم عليه في الثامن عشر على تلك المنزلة وسر بوصوله سروراً عظيماً ولما تكاملت عنده آلات القتال من المناجيق والدبابات والسنائر وغير ذلك نزل عليها في الثامن والعشرين وضايقها وقاتلها قتالاً عظيماً واستدعى أسطول مصر وكان يحاصرها من البحر والعسكر من البر وكان قد خلف أخاه الملك العادل بالقدس يقرر قواعده فاستدعاه فوصل إليه في خامس شوال وسير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال. وذلك أنه قدم على الأسطول إنسان يقال له الفارس بدران وكان ناهضاً جلداً في البحر وكان رئيس البحريين يقال له عبد المحسن وكان قد أكد عليهم الوصية وأخذ حذرهم وتيقظهم لئلا تنتهز منهم فرصة فخالفوه وغفلوا عن أنفسهم في الليل فخرج أسطول الكفار من صور وكبسوهم وأخذوا المقدمين مع خمسة قطع وقتلوا خلقاً عظيماً من الأسطول الإسلامي وذلك في السابع والعشرين من شوال فلما علم السلطان ما تم على المسلمين ضاق عطنه وكان قد هجم الشتاء وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال من شدة المطر فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل ليأخذ العسكر جزأً من الراحة ويستعدوا لهذا الأمر استعداداً جديداً فرأى ذلك رأياً ورحل عنها بعد أن رمى المنجنيقات وسيرها وأحرق مالا يمكن ثقله وكان رحيله ثاني ذي القعدة من هذه السنة ففرق العساكر وأعطاها دستوراً وسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو مع جماعة من خواصه بعكا حتى دخلت سنة أربع وثمانين. ولما دخلت عليه هذه السنة المباركة رأى الاشتغال بالحصون الباقية لهم مما يضعف قلوب من في صور وينهي أمرها به فاشتغل بذلك ونزل على كوكب في أوائل محرم وكان سبب بداءته بكوكب أنه قد جعل حولها جماعة يحفظونها من أن تدخل إليهم قوة فخرج الإفرنج ليلاً وأخذوا غرتهم وكبسوهم بعفربلا وقتلوا مقدمهم وكان من الأمراء ويعرف بسيف الدين أخي الجاولي وأخذوا أسلحتهم فسار رحمه الله من عكا ونزل عليها بمن معه من خواصه فإنه كان قد أعطى العساكر دستوراً وعاد أخوه إلى مصر وولده إلى حلب ولقي في طريقه شدة من الثلج والبرد فحملته مع ذلك الحمية على النزول عليها وأقام يقاتلها مدة. وفي تلك المنزلة وصلت إلى خدمته فإني كنت قد حججت سنة ثلاث وثمانين وكانت وقعة ابن المقدم وجرح يوم عرفة على عرفة لخلف جرى بينه وبين أمير الحاج طستكين على ضرب الكؤوس والدبدبة فإن أمير الحاج نهاه عن ذلك فلم ينته ابن المقدم وكان من أكبر أمراء الشام وكان كثير الغزاة فقدر الله أن جرح بعرفة يوم عرفة ثم حمل إلى منى مجروحاً ومات بمنى يوم الخميس يوم عيد الله الأكبر وصلي عليه في مسجد الخيف في بقية ذلك اليوم ودفن بالمعلا وهذا من أتم السعادات وبلغ ذلك السلطان فشق عليه ثم اتفق لي العود من الحج إلى الشام لقصد القدس وزيارته والجمع بين زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم وزيارة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوصلت إلى دمشق ثم خرجت إلى القدس فبلغه خبر وصولي فظن أني وصلت من جانب الموصل في حديث فاستحضرني عنده وبالغ في الإكرام والاحترام. ولما ودعته ذاهباً إلى القدس خرج لي بعض خواصه وأبلغني تقدمه إلي بأن أعود أتمثل في خدمته عند العود من القدس فظننت أنه يوصيني بمهم إلى الموصل وانصرفت إلى القدس يوم رحيله عن كوكب ورحل لأنه علم أن هذا الحصن لا يؤخذ إلا بجمع العساكر عليه وكان حصناً قوياً وفيه رجال شداد من بقايا السيف وميرة عظيمة فرحل إلى دمشق وكان دخوله إليها في سادس ربيع الأول. وفي ذلك اليوم اتفق دخولي إليها عائداً من القدس وأقام بها خمسة أيام فكان له عنها ستة عشر شهراً وفي اليوم الخامس بلغه خبر الإفرنج أنهم بحبيلا واغتالوها فخرج مسرعاً ساعة بلوغ الخبر وكان قد سير إلى العساكر يستدعيها من سائر الجوانب وسار يطلب حبيلا فلما عرف الإفرنج بخروجه كفوا عن ذلك. وكان بلغه وصول عماد الدين وعسكر الموصل ومظفر الدين إلى حلب قاصدين الخدمة للغزاة فسار نحو حصن الأكراد في طلب الساحل الفوقاني. ذكر دخوله الساحل الأعلى وأخذهِ اللاذقية وجبلة وغيرهما ولما كان مستهل ربيع الآخر نزل على تل قبالة حصن الأكراد ثم سير إلى الملك الظاهر والملك المظفر أن يجتمعا وينزلا بتبرين قبالة أنطاكية ليحفظ ذلك الجانب وسارت عساكر الشرق حتى اجتمعت لخدمة السلطان في هذه المنزلة ووصلت إليه بها على عزم المسير إلى الموصل متجهزاً لذلك فلما حضرت عنده فرح بي وأكرمني وكنت قد جمعت له كتاباً في الجهاد بدمشق مدة مقامي فيها يجمع أحكامه وآدابه فقدمته بين يديه فأعجبه وكان يلازم مطالعته وما زلت أطلب دستوراً في كل وقت وهو يدافعني عن ذلك ويستدعيني للحضور في خدمته في كل وقت ويبلغني على ألسنة الحاضرين ثناءه علي وذكره إياي بالجميل فأقام في منزلته ربيعاً الآخر جميعه وصعد في أثناءه إلى حصن الأكراد وحاصرها يوم مجيئه بها فما رأى الوقت يحمل حصاره واجتمعت العساكر من الجوانب وأغار على بلد طرابلس في الشهر دفعتين ودخل البلاد مغيراً ومختبراً لمن بها من العساكر ويقويه العساكر بالغنائم ثم نادى في الناس في أواخر الشهر إنا داخلون الساحل وهو قليل الأزواد والعدو يحيط بنا في بلاده من سائر الجوانب فاحملوا زاد شهر ثم سير إلي مع الفقيه عيسى وكشف إلي أنه ليس في عزمه أن يمكنني من العود إلى بلادي وكان الله قد أوقع في قلبي محبته منذ رأيته وحبه الجهاد فأحببته لذلك وخدمته من تاريخ مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وهو يوم دخوله الساحل وجميع ما حكيته قبل إنما هو روايتي عمن أثق به ممن شاهده ومن هذا التاريخ ما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به خبراً يقارب العيان والله الموفق ولما كان يوم الجمعة رابع جمادى الأولى رحل السلطان على تعبية لقاء العدو ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أولاً ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط والميسرة في الآخر ومقدمها مظفر الدين وسار الثقل في وسط العسكر حتى أتى المنزل فبتنا تلك الليلة في بلد العدو ثم رحل ونزل على العريمة فلم يقاتلها ولم يتعرض لها ووصل في السادس إلى أنطرسوس فوقف قبالتها ينظر إليها وكان في عزمه الاجتياز فإنه كان له عمل بجبلة فاستهان بأمرها فعزم على قتالها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جانب البحر ولها برجان كالقلعتين حصينان وركب هو وقارب البلد وأمر الناس بالزحف والقتال فلبسوا لامة الحرب والقتال والزحف وضايقهم فما استتم نصب الخيم واشتغلوا بالنهب والكسب ووفى بقوله نتغدى بأنطرسوس إن شاء الله وعاد إلى خيمته فرحاً مسروراً. وحضرنا عنده للهناء بما جرى ومد الطعام وحضر الناس وأكلوا على عادتهم ورتب على البرجين الباقيين الحصار فسلم أحدهما مظفر الدين فما زال يحاصره حتى أخرجه وأخذ من كان فيه وأمر السلطان بإخراب سور البلد وقسمه على الأمراء وشرعوا في إخرابه وأخذوا يحاصرون الآخر. وكان حصناً منيعاً مبنياً بالحجر النحيت وقد اجتمع من كان فيها من الخيالة والبصارقة والمقاتلة وخندقه يدور فيه الماء وفيه فروج كثيرة يخرج الناس منها عن بعد وليس له قدر يخرج عليه مسلم فرأى السلطان تأخير أمره والاشتغال بما هو أهم منه فاشتد في إخراب السور حتى أتى عليه وخرب البيعة وهي بيعة عظيمة عندهم محجوج إليها من أقطار بلادهم وأمر بوضع النار في البلد فأحرق جميعه حتى كان تتأجج النار في إرزه وبيوته والأصوات مرتفعة بالتهليل والتكبير فأقام عليها يخربها إلى الرابع عشر وسار يريد جبلة وكان عرض له ولده الملك الظاهر في أثناء طريق جبلة فإنه طلبه وأمره أن يحضر معه جميع العساكر التي كانت بتبرين. ووصل إلى جبلة في الثامن عشر وما استتم نزول العساكر حتى أتى البلد وكان فيه مسلمون مقيمون فيه وفاض يحكم بينهم وكان قد عمل على البلد فلم يمتنع وبقيت القلعة ممتنعة فاشتغل بقتالها فقاتلت قتالاً يقيم عذراً لمن كان فيها وسلمت بالأمان في التاسع عشر وأقام عليها إلى الثالث والعشرين وسار عنها يطلب اللاذقية وكان نزوله عليها في الرابع والعشرين وهي بلد مليح خفيف على القلب غير مستور. وله ميناء مشهورة وله قلعتان متصلتان على تل مشرف على البلد فنزل محدقاً بالبلد وأخذ العسكر منازلهم مستديرين على القلعتين من جميع نواحيها إلا من ناحية البلد واشتد القتال وعظم الزحف وارتفعت الأصوات وقوي الضجيج إلى آخر اليوم المذكور. وأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة فإنه كان بلد التجار ففرق بين الناس الليل وهجومه وأصبح يوم الجمعة مقاتلاً مجتهداً في أخذ النقوب وأخذت النقوب من شمالي القلاع وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله على ما حكي لي من ذرعه ستين ذراعاً وعرضه أربعة أذرع واشتد الزحف عليهم حتى صعد الناس الجبل وقاربوا السور وتواصل القتال حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة باليد فلما رأى عدو الله ما حل بهم من الصغار والبوار استغاثوا بطلب الأمان عشية الجمعة الخامس والعشرين من الشهر وطلبوا قاضي جبلة يدخل إليهم ليقرر لهم الأمان فأجيبوا إلى ذلك وكان رحمه الله متى طلب منه الأمان لا يبخل به رفقاً فعاد الناس عنهم إلى خيامهم واستقر الحال معهم على أنهم يطلقون بنفوسهم وذراريهم وأموالهم خلا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب وأطلق لهم دواب يركبونها إلى مأمنهم ورقي عليها ذكر فتوح صهيون ورحل عن اللاذقية طالباً صهيون واستدارت العساكر بها من سائر نواحيها في التاسع والعشرين ونصب عليها ستة مناجيق وهي قلعة حصينة منيعة في طرف جبل خنادقها أودية هائلة واسعة عظيمة وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد مقدار طوله ستون ذراعاً أو أكثر وهو نقر في حجر ولها ثلاثة أسوار سور دون ربضها وسور دون القلعة وكان على قلعتها علم طويل منصوب فحين أقبل العسكر الإسلامي شاهدته قد وقع فاستبشر المسلمون بذلك وعلموا أنه النصر والفتح واشتد القتال عليها من سائر الجوانب فضربها بمنجنيق الملك الظاهر صاحب حلب وكان نصب منجنيقاً قريباً من سورها فقطع الوادي وكان صائب الحجر فلم يزل يضربها حتى هدم من السور قطعة عظيمة يمكن الصاعد في السور الترقي إليه منها ولما كان بكرة الجمعة ثاني جمادى الآخرة عزم السلطان وتقدم وأمر المنجنيقات أن تتوالى بالضرب وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج بالتكبير والتهليل وما كان إلا ساعة حتى رقي المسلمون على الأسوار التي للربض واشتد الزحف وعظم الأمر وهجم المسلمون الربض ولقد كنت أشاهد الناس وهم يأخذون القدور وقد استوى فيها الطعام فيأكلونها وهم يقاتلون وانضم من كان في الربض إلى القلعة ويحملون ما أمكنهم أن يحملوا من أموالهم ونهب الباقي واستدارت المقاتلة حول أسوار القلعة ولما عاينوا الهلاك استغاثوا بطلب الأمان ووصل خبرهم إلى السلطان فبذل الأمان وأنعم عليهم على أن يسلموا بأنفسهم وأموالهم ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير ومن المرأة خمسة وعن الصغير ديناران وسلمت القلعة وأقام السلطان عليها حتى سلم عدة قلاع كالعبد وفيحه وبلاطنيس وغيرها من القلاع والحصون تسلمها النواب ذكر فتوح بكاس ثم رحل وسرنا حتى أتينا سادس جمادى الآخرى بكاس وهي قلعة حصينة على جانب العاصي ولها نهر يخرج من تحتها وكان المنزل على شاطئ العاصي وصعد السلطان جريدة إلى القلعة وهي على جبل يطل على العاصي فأحدق بها من كل جانب وقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات والزحف المضايق إلى تاسع الشهر ويسر الله فتحها عنوة وأسر من فيها بعد قتل من قتل منهم وغنم جميع ما كان فيها وكان لها قليعة تسمى الشفر قريبة منها يعبر إليها منها بجسر وهي في غاية المنعة ليس إليها طريق فسلطت عليها المنجنيقات من الجوانب ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان في الثالث عشر وسألوا أن يؤخروا ثلاثة أيام لاستئذان من بإنطاكية فأذن في ذلك وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني عليها يوم الجمعة سادس عشر ثم عاد السلطان إلى الثقل وسير ولده الملك الظاهر إلى قلعة سرمانية فقاتلها قتالاً شديداً وضايقها مضايقة عظيمة وتسلمها يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر فاتفقت فتوحات الساحل من جبلة إلى سرمانية في أيام الجمع وهي علامة قبول دعاء الخطباء المسلمين وسعادة السلطان حيث يسر لنا الله الفتوح في اليوم الذي يضاعف فيه ثواب الحسنات وهذا من نوادر الفتوحات في الجمع المتوالية ولم يتفق مثلها في تاريخ. ثم سير السلطان جريدة إلى قلعة برزية وهي قلعة حصينة في غاية القوة والمنعة على سن جبل شاهق يضرب بها المثل في جميع بلاد الإفرنج والمسلمين يحيط بها أودية من سائر جوانبها وذرع علوها كان خمسمائة ذراع ونيفاً وسبعين ذراعاً ثم جدد عزمه على حصارها بعد رؤيتها واستدعى الثقل وكان نزول الثقل وبقية العسكر تحت جبلها في الرابع والعشرين من الشهر وفي بكرة الخامس والعشرين منه صعد السلطان جريدة مع المقاتلة والمنجنيقات وآلات الحصار إلى الجبل فأحدقت بالقلعة من سائر نواحيها وركب القتال من كل جانب وضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة الضرب ليلاً ونهاراً وفي السابع والعشرين قسم العساكر ثلاثة أقسام ورتب كل قسم يقاتل شطراً من النهار ثم يستريح ويسلم القتال للقسم الآخر بحيث لا يفتر عنها القتال عنها أصلاً وكان صاحب النوبة الأولى عماد الدين صاحب سنجار فقاتلها قتالاً شديداً حتى استوفى نوبته وضرس الناس من القتال وتراجعوا واستلم النوبة الثانية السلطان بنفسه وركب وتحرك خطوات عدة وصاح في الناس فحملوا عليها حملة الرجل الواحد وقصدوا السور من كل جانب فلم يكن إلا بعض ساعة حتى رقي الناس على الأسوار وهجموا القلعة وأخذت القلعة عنوة فاستغاثوا بالأمان وقد تمكنت الأيدي منهم فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ونهب جميع ما فيها وأسر جميع من كان فيها وكان قد أوي إليها خلق عظيم وكانت من قلاعهم المذكورة وكان يوماً عظيماً وعاد الناس إلى خيامهم غانمين وعاد السلطان إلى الثقل فرحاً مسروراً وأحضر بين يديه صاحب القلعة وكان رجلاً كبيراً منهم وكان هو ومن أخذ من أهله سبعة عشر نفساً فمن عليهم ورق لهم وأنفذهم إلى صاحب أنطاكية استمالة له فإنهم كانوا يتعلقون به ومن أهله. ثم رحل حتى أتى جسر الحديد وأقام عليه أياماً وسار حتى نزل على دربساك يوم الجمعة ثامن عشر رجب وهي قلعة منيعة قريبة من أنطاكية فنزل عليها وقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات وضايقها مضايقة عظيمة وأخذ النقب تحت برج منها وتمكن النقب منه حتى وقع وحموه بالرجال والمقاتلة ووقف في الثغرة رجال يحمونها ممن يصعد فيها ولقد شاهدتهم وكلما قتل منهم رجل قام غيره مقامه وهم قيام في عرض الجدار مكشفون فاشتد بهم الأمر حتى طلبوا الأمان واشترطوا مراجعة أنطاكية وكانت القاعدة أن ينزلوا بأنفسهم وثياب أبدانهم لا غير ورقي العلم الإسلامي في الثاني والعشرين من رجب وأعطاها علم الدين سليمان بن جندر وسار عنها في الثالث والعشرين منه. وهي قلعة منيعة أقرب إلى أنطاكية من دربساك وكانت كثيرة العدة والرجال فنزل العسكر في مرج لها وأحدق العسكر بها جريدة مع أنّا احتجنا إلى يزك في تلك المنزلة يحفظ جانب أنطاكية لئلا يخرج منها من يهاجم العسكر فضرب يزك الإسلام على باب أنطاكية بحيث لا يشذ عنه من يخرج منها وأنا ممن كان في اليزك بعض الأيام لرؤية البلد وزيارة حبيب النجار المدفون فيها ولم يزل يقاتل بغراس مقاتلة شديدة حتى طلبوا الأمان على استئذان أنطاكية ورقي العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان وفي بقية ذلك اليوم عاد رحمه الله إلى المخيم الأكبر وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر وقوة قلق عماد الدين صاحب سنجار في طلب الدستور وعقد الصلح بيننا وبين أنطاكية من بلاد الإفرنج لا غير على أن يطلقوا جميع أسارى المسلمين الذين عندهم وكان إلى سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد إلى السلطان. ورحل يطلب دمشق فسأله ولده الملك الظاهر أن يجتاز به فأجابه وسار حتى أتى حلب حادي عشر شعبان وأقام بقلعتها ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام ولم يبق من العسكر إلا من ناله من نعمته منال وأكثر ظني أنه أشفق عليه والده وسار من حلب يريد دمشق فاعترضه ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين وأصعده إلى قلعة حماة واصطنع له طعاماً حسناً وأحضر له سماع الصوفية وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه جبلة واللاذقية وسار على طريق بعلبك حتى أتاها وأقام بمرجها يوماً ودخل إلى حمامها وسار منها حتى دخل رمضان وما كان يرى تخلية وقته عن الجهاد مهما أمكنه وكان قد بقي له القلاع القريبة من حوران التي يخاف عليها من جانبها كصفد وكوكب فرأى أن يشغل الوقت بفتح المكانين في الصوم. ثم سار في أوائل رمضان من دمشق يريد صفد ولم يلتفت إلى مفارقة الأهل والأولاد والوطن في هذا الشهر الذي يسافر الإنسان أين كان فيجتمع فيه بأهله. اللهم إنه احتمل ذلك ابتغاء مرضاتك فآته أجراً عظيماً. فسار حتى أتى صفد وهي قلعة منيعة قد تقاطعت حولها أودية من سائر جوانبها فأحدق العسكر بها ونصب عليها المناجيق في أثناء شهر رمضان المبارك وكانت الأمطار شديدة والوحول عظيمة ولم يمنعه ذلك عن جده ولقد كنت عنده في خدمته ليلة وقد عين مواضع خمس مناجيق فقال ما ننام حتى تنصب الخمسة وسلم كل منجنيق إلى قوم ورسله تتواتر إليهم يعرفونهم كيف يصنعون حتى أظله الصبح وقد فرغت المنجنيقات ولم يبق إلا تركيب خنازيرها فيها فرويت له الحديث المشهور في الصحاح وبشرته بمقتضاه وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: " عينان لا تمسهما النار عين باتت تحرس في سبيل الله وعين بكت من خشية الله " وفي أثناء شهر رمضان سلمت الكرك من جانب نواب صاحبها وخلصوه بها من الأسر وكان قد أسر في وقعة حطين المباركة ثم لم يزل القتال على صفد متواصلاً بالبون مع الصوم حتى سلمت بالأمان في رابع عشر شوال. ثم سار يريد كوكب فنزل على الجبل وجرد العسكر وأحدق بالقلعة وضايقها بالكلية بحيث اتخذ له موضعاً يتجاوز نشاب العدو ونباله حائطاً من حجر وطين يستتر وراءه حتى لا يقدر أحد يقف على باب خيمة إلا إن كان ملبساً وكانت الأمطار متواترة والوحول عظيمة وعانى شدائد وأهوالاً من شدة الرياح وتراكم الأمطار وكون العدو مسلطاً عليهم بعلو مكانه وقتل وجرح جماعة ولم يزل راكباً مركب الجد حتى تمكن من النقب من سورها ولما أحس العدو المخذول أنه مأخوذ طلب الأمان فأجابهم إلى ذلك وأمنهم وتسلمها في منتصف ذي القعدة ونزل على الفور إلى الثقل وكان قد أنزله من شدة الوحل والريح في سطح الجبل فأقام بقية الشهر يراجعه أخوه الملك العادل في أشغال شخصية حتى هل هلال ذي الحجة وأعطى الجماعة دستوراً وسار مع أخيه يريد القدس لزيارته ووداع أخيه فإنه عائداً إلى مصر فوصلا إليه يوم الجمعة ثامن ذي الحجة وصلينا الجمعة في قبة الصخرة الشريفة وصلينا صلاة العيد الأعظم بها أيضاً يوم الأحد وسار حادي عشر طالباً عسقلان لينظر في حالها فأقام بها أياماً يلم شعثها ويصلح أحوالها فودع أخاه وأعطاه الكرك وأخذ منه عسقلان وعاد يطلب عكا على طريق الساحل ويمر على البلاد يتفقد أحوالها ويودعها الرجال والعدد حتى أتى عكا فأقام بها معظم محرم سنة خمسة وثمانين ورتب بها بهاء الدين قراقوش والياً وأمره بعمارة السور والإطناب فيه. وهي السفرة المتواصلة بواقعة عكا وأقام بدمشق حتى دخل ربيع الأول ثلاثة أيام ووصله في أثناء ربيع الأول رسل الخليفة الناصر لدين الله يأمره بالخطبة لولده ولي العهد فخطب له وجدد عزمه على قصد شقيف أرنون وهو موضع حصين قريب من بانياس وكان تبريزه في الثالث فسار حتى نزل مرج برغوث وأقام به ينتظر العساكر إلى حادي عشرة ورحل حتى أتى بانياس ثم رحل منها حتى أتى مرج عيون في السابع عشر فخيم به وهو قريب من شقيف أرنون بحيث يركب كل يوم بشارفه والعساكر تجتمع وتطلبه من كل صوب وأوب فأقمنا أياماً نشرف كل يوم على الشقيف والعساكر الإسلامية في كل يوم تصبح متزايدة العدد والعدد وصاحب الشقيف يرى ما يتيقن معه عدم السلامية فرأى أن إصلاح حاله معه قد تعين طريقاً إلى سلامته فنزل بنفسه وما أحسسنا به إلا وهو قائم على باب خيمة السلطان فأذن له فدخل فاحترمه وأكرمه وكان من كبار الإفرنجية وعقلائها وكان يعرف بالعربية وعنده إطلاع على شيء من التواريخ وبلغني أنه كان عنده مسلم يقرأ له ويفهمه وكان عنده ثاني فحضر بين يدي السلطان وأكل معه الطعام ثم خلا به وذكر له أنه مملوك وأنه تحت طاعته وأنه يسلم المكان إليه من غير تعب واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الإفرنج وإقطاعاً بدمشق يقوم به وبأهله وأن يمكن من الإقامة بموضعه وهو يتردد إلى الخدمة ثلاثة أشهر من تاريخ اليوم الذي كان فيه حتى يتمكن من تخليص أهله وجماعته من صور فأجيب إلى ذلك كله وأقام يتردد إلى خدمة السلطان في كل وقت ويناظره في دينه ونناظره في بطلانه وكان حسن المحاورة ومتأدباً في كلامه وفي أثناء ربيع الأول وصل الخبر بتسليم الشوبك وكان قد أقام السلطان عليه جمعاً عظيماً يحاصرونه مدة سنة حتى فرغ زادهم وسلموه بالأمان. وكان السلطان اشترط على نفسه حين تسلم عسقلان أنه إن أمر الملك بتسليمها أطلقه فأمرهم بتسليمها وسلموها فطالبه الملك بإطلاقه فأطلقه وفاءً بالشرط ونحن على حصن الأكراد من أنطرسوس واشترط عليه أن لا يشهر في وجهه سيفاً أبداً ويكون غلامه ومملوكه وطليقه أبداً فنكث لعنه الله فجمع جموعاً وأتى صور يطلب الدخول إليها فخيم على بابها يراجع المركيس الذي كان بها في ذلك الوقت وكان المركيس اللعين رجلاً عظيماً ذا رأي وبأس شديد في دينه وصرامة عظيمة فقال إني نائب للملوك الذين وراء البحر وما أذنوا لي في تسليمها إليك وطالت المراجعة واستقرت القاعدة بينهما على أن يتفقوا جميعاً على المسلمين وتجمع العساكر بصور وغيرها من الإفرنجية على المسلمين وعسكروا على باب صور. وذلك أنه لما كان يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأول من السنة المذكورة بلغ السلطان من اليزك أن الإفرنج قد قطعوا الجسر الفاصل بين أرض صور وأرض صيدا وبقيت الأرض التي نحن عليها فركب السلطان وصاح الجاووش فركب العسكر يريدون نحو اليزك فوصل العسكر وقد انفصلت الوقعة وذلك أن الإفرنج عبر منهم جماعة الجسر فنهض لهم اليزك الإسلامي وكانوا في قوة وعدة فقاتلوهم قتالاً شديداً وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وجرحوا أضعاف ما قتلوا ورموا في النهر جماعة فغرقوا ونصر الله الإسلام وأهله ولم يقتل من المسلمين إلا مملوك للسلطان يعرف بأيبك الأخرش فإنه استشهد في ذلك اليوم وكان شجاعاً باسلاً مجرباً في الحرب فارساً تقنطر به فرسه فلجأ إلى صخرة فقاتل بالنشاب حتى فني ثم بالسيف حتى قتل جماعة ثم تكاثروا عليه فقتلوه ووَجِد السلطان عليه لمكان شجاعته وعاد السلطان إلى خيم كانت قد ضربت له ذكر وقعة ثانية استشهد فيها جمع من رجاله المسلمين وأقام في تلك الخيم إلى التاسع عشر وركب يشرف على القوم على عادة فتبع العسكر خلق عظيم من الرجالة والغزاة والسوقة وحرص في ردهم فلم يفعلوا ولقد أمر من ضربهم فلم يفعلوا وخاف عليهم فإن المكان كان حرجاً ليس للراجل فيه ملجأ ثم هجم الرجالة إلى الجسر وناوشوا العدو وعبر منهم جماعة إليهم وجرى بينهم قتال شديد واجتمع بهم من الإفرنج خلق عظيم وهم لا يشعرون وكشفوهم بحيث علموا أن ليس وراءهم كمين فحملوا عليهم حملة واحدة على غرة من السلطان فإنه كان بعيداً عنهم ولم يكن معه عسكر فإنه لم يخرج بتعبية قتال وإنما ركب مستشرفاً عليهم على العادة من كل يوم ولما بان له الوقعة وظهر له غبارها بعث إليهم من كان معه ليردوهم فوجدوا الأمر قد فرط والإفرنج قد تكاثروا حتى خافت منهم السرية التي بعثها السلطان وظفروا بالرجالة ظفرة عظيمة وجرى بينهم وبين السرية قتال شديد وأسر جماعة من الرجالة وقتلوا جماعة وكان عدد الشهداء مائة وثمانين نفراً وقتل أيضاً من الإفرنج عدة عظيمة وغرق أيضاً منهم عدة وكان ممن قتل منهم مقدم الألمانية وكان عندهم عظيماً محترماً واستشهد من المعروفين من المسلمين ابن البصاروا وكان شاباً حسناً شجاعاً واحتسبه والده في سبيل الله ولم تقطر من عينه عليه دمعة على ما ذكر جماعة لازموه وهذه الوقعة لم يتفق للإفرنج مثلها في هذه الوقائع التي حضرتها وشاهدتها ولم ينالوا من المسلمين مثل هذه العدة في هذه المدة. ولما رأى السلطان ما حل بالمسلمين في تلك الوقعة النادرة جمع أصحابه وشاورهم وقدر معهم أنه يهجم على الإفرنج ويعبر الجسر ويقتلهم ويستأصل شأفتهم وكان الإفرنج قد رحلوا من صور ونزلوا قريب الجسر وبين الجسر وصور مقدار فرسخ وزائد على فرسخ فلما صمم العزم على ذلك أصبح يوم الخميس سابع عشر وركب وسار وتبعه الناس والمقاتلة والعساكر ولما وصل أواخر الناس إلى أوائلهم وجدوا اليزك عائداً وخيامهم قد قلعت فسئلوا عن سبب ذلك فذكروا أن الإفرنج رحلوا راجعين إلى صور ملتجئين إلى سورها معتصمين بقربها وأنهم لما بلغهم ذلك عادوا ولما رأى السلطان ذلك منهم رأى أن يسير إلى عكا ليلحظ ما بني من سورها ويحث على الباقي فمضى إلى عكا ورتب أحوالها وأمر بتتمة عمارة سورها وإتقانه وإحكامه وأمرهم بالاحتياط والاحتراز وعاد إلى العسكر المنصور إلى مرج عيون منتظراً مهلة صاحب الشقيف لعنه الله. ولما كان يوم السبت سادس جمادى الآخرى بلغه أن جماعة من رجالة العدو يسطون ويصلون إلى جبل تبنين يحتطبون وفي قلبه من رجالة المسلمين وما جرى عليهم أمر عظيم فرأى أن يقرر قاعدة وكميناً يرتبه لهم ويأخذهم فيه وبلغه أنه يخرج وراءهم أيضاً خيلاً تحفظهم فعمل كميناً يصلح للقاء الجميع ثم أنفذ إلى عسكر تبنين وتقدم إليهم أن يخرجوا في نفر يسير غائرين على تلك الرجالة وأن خيل العدو إذا تبعتهم ينهزمون إلى جهة عينها لهم وأن يكون ذلك صبيحة الاثنين ثامن جمادى الآخرى وأرسل إلى عسكر عكا أن يسير حتى يكون وراء عسكر العدو حتى إذا تحركوا في نصرة أصحابهم قصدوا خيمهم وركب هو وجحفله فجر يوم الاثنين شاكي السلاح متجردين ليس معهم خيمة إلى الجهة التي عينها لهزيمة عسكر تبنين ورتب العسكر ثمانية أطلاب واستخرج من كل طلب عشرين فارساً من الشجعان الجياد الخيل وأمرهم أن يتراأوا للعدو حتى يظهر واليهم ويناوشوهم وينهزموا بين أيديهم حتى يصلوا إلى الكمين ففعلوا ذلك وظهر لهم من الإفرنج معظم عسكرهم يقدمهم الملك وكان قد بلغهم الخبر وتعبوا تعبية القتال وجرى بينهم وبين هذه السرية اليسير قتال شديد والتزمت السرية القتال وأنفوا عن الانهزام بين أيديهم وحملتهم الحمية على مخالفة السلطان ولقائهم العدو الكثير بذلك الجمع اليسير واتصل الحرب بينهم إلى أواخر نهار الاثنين ولم يرجع منهم أحد إلى العسكر ليخبرهم بما جرى واتصل الخبر بالسلطان في أواخر الأمر وقد هجم الليل فبعث إليهم بعوثاً كثيرة حين علم ضيق الوقت عن المصاف وفوات الأمر ولما بصر الإفرنج بأوائل المدد قد لحق السرية عادوا منهزمين ناكصين على أعقابهم بعد أن جرت مقتلة عظيمة من الجانبين وكانت القتلى من الإفرنج على ما ذكر من حضر فإني لم أكن حاضرها زهاء عشرة أنفس ومن المسلمين ستة أنفار اثنان من اليزك وأربعة من العرب منهم الأمير رامل وكان شاباً تاماً حسن الشباب مقدم عشيرته. وكان سبب قتله أنه تقنطرت به فرسه ففداه ابن عمه بفرسه فتقنطرت به أيضاً وأسر هو وثلاثة من أهله. ولما بصر الإفرنج بالمدد للعسكر قتلوهم خشية الاستنقاذ وجرح خلق كثير من الطائفتين وخيل كثيرة. ومن نوادر هذه الوقعة أن مملوك السلطان أثخن بالجراح حتى وقع بين القتلى وجراحاته تشخب دماً وبات ليلته أجمع على تلك الحالة إلى صبيحة يوم الثلاثاء فتفقده أصحابه فلم يجدوه فعرفوا السلطان فقده فأنفذ من يكشف خبره فوجدوه بين القتلى على مثال هذه الحالة فحملوه ونقلوه إلى المخيم على تلك الحال وعافاه الله وعاد السلطان إلى المخيم يوم الأربعاء عاشر الشهر منصوراً فرحاً مسروراً. ثم استفاض بين الناس أن صاحب الشقيف فعل ما فعله من المهلة غيلة لا أنه صادق في ذلك وإنما قصد فيه تدفع الزمان وظهر لذلك مخائل كثيرة من الحرص في تحصيل الميرة وإتقان الأبواب وغير ذلك فرأى السلطان أن يصعد إلى سطح الجبل ليقرب من المكان ويرسل سراً من يمنع من دخول النجدة والميرة إليه وأظهر أن سبب ذلك شدة حر الزمان والفرار من وخم المرج. وكان انتقاله إلى سطح الجبل ليلة الثاني عشر من الشهر وقد مضى من الليل ربعه فما أصبح صاحب الشقيف إلا والخيمة مضروبة وبقي بعض العساكر بالمرج على حاله فلما رأى أصحاب الشقيف قرب العسكر منه وعلم أنه بقي من المدة بقية جمادى الآخرى حدثته نفسه أنه ينزل إلى خدمة السلطان ويستعطفه ويستزيده في المدة وتخيل له بما رأى من أخلاق السلطان ولطافته أن ذلك يتم فنزل إلى الخدمة وعرض المكان وقال المدة لم يبق منها إلا اليسير وأي فرق بين التسليم اليوم أو غداً وأظهر أنه بقي من أهله جماعة بصور وأنهم على الخروج منها في هذه الأيام وأقام في الخدمة ذلك اليوم إلى الليل وصعد القلعة ولم يظهر له السلطان شيئاً وأجراه على عادته وتقضى مدته ثم عاد ونزل أيام وقد قرب انتهاء المدة والفراغ منها وطلب الخلوة بالسلطان وسأل منه أن يمهله تمام السنة تسعة أشهر فأحس السلطان منه الغدر فماطله وما أيسه وقال نتفكر في ذلك ونجمع الجماعة ونأخذ رأيهم وما ينفصل الحال عليه نعرفك وضرب له خيمة قريبة من خيمته وأقام عليها حرساً لا يشعر بهم وهو على غاية من الإكرام والاحترام له والمراجعة والمراسلة بينهم في ذلك الفن مستمرة حتى انقضت الأيام وطولب بتسليم المكان فكشف له أنك أضمرت الغدر وجددت في المكان عمائر وحملت إليه ذخائر فأنكر ذلك واستقرت القاعدة على أن ينفذ من عنده ثقته وينفذ السلطان ثقة يتسلم المكان وينظر هل تجدد فيه شيء من البناء أم لا فمضوا إليه فلم يلتفت أصحابه المقيمون إليهم ووجدوه قد جدد باباً للسور لم يكن فأقيم الحرس الشديد عليه وأظهر ذلك ومنع من الدخول إلى الخدمة وقيل له قد انقضت المدة ولا بد من التسليم وهو يغالط عن ذلك ويدافع عن الجواب عنه ولما كان الثامن عشر من جمادى الآخرة وفيه اعترف بانتهاء المدة قال أنا أمضي وأسلم المكان وسار معه جمع كثير من الأمراء والأجناد حتى أتى الشقيف وأمرهم بالتسليم فأبوا فخرج إليه قسيس وحدثه بلسانه ثم عاد واشتد امتناعهم بعد عود القسيس إليهم فظن أنه أكد الوصية على القسيس في الامتناع وأقام ذلك اليوم والحديث يتردد فلم يتلفتوا وأعيد إلى المخيم المنصور وسير من ليلته إلى بانياس وأحيط عليه بقلعتها فأحدق العسكر بالشقيف مقاتلين ومحاصرين وأقام صاحب الشقيف ببانياس إلى سادس رجب واشتد حنق السلطان على صاحب الشقيف بسبب تضييع ثلاثة أشهر عليه وعلى عسكره ولم يعملوا فيها شيئاً فأحضر إلى المخيم وهدد ليلة وصوله بأمور عظيمة فلم يفعل وأصبح السلطان ثامن رجب ورقي إلى سنام الجبل مخيمه وهو موضع مشرف على الشقيف من المكان الذي كان فيه أولى وأبعد من الوخم وكان قد تغير مزاجه ثم بلغنا بعد ذلك أن الإفرنج بصور مع الملك قد ساروا نحو النواقير يريدون جهة عكا وإن بعضهم نزل بالإسكندرية وجرى بينهم وبين رجالة المسلمين مناوشة وقتل منهم المسلمون نفراً يسيراً وأقاموا هناك. وذلك أنه لما بلغ السلطان حركة الإفرنج إلى تلك الجهة عظم عليه ولم ير المسارعة خوفاً من أن يكون قصدهم ترحيله عن الشقيف لا قصد المكان فأقام مستكشفاً للحال إلى ثاني عشر رجب فوصل قاصداً آخر أن الإفرنج في بقية ذلك اليوم رحلوا ونزلوا عين بصة ووصل أوائلهم إلى الزيت فعظم ذلك عنده وكتب إلى سائر أرباب الأطراف يتقدمون بالعساكر الإسلامية بالمسير إلى المخيم المحروس وعاد فجدد الكتب والحث وتقدم إلى الثقل أن سار الليل وأصبح هو صبيحة الثالث عشر سائراً إلى عكا على طريق طبرية إذ لم يكن ثم طريق يسع العساكر إلا هو وسير جماعة على طريق تبنين يستطلعون العدو ويواصلون بإخباره وسرنا حتى أتينا الحولة منتصف النهار فنزل بها ساعة ثم رحل وسار طول الليل حتى أتينا موضعاً يقال له المنية صباح اليوم الرابع عشر وفيه بلغنا نزول الإفرنج على عكا يوم الاثنين الثالث عشر وسير صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة على سوء صنيعه وسار هو جريدة من المنية حتى اجتمع ببقية العسكر الذي كان أنفذه على طريق تبنين بمرج صفورية فإن كان واعدهم إليه وتقدم إلى الثقل أن يلحقه إلى مرج صفورية ولم يزل حتى شارف العدو من الخروبة وبعث بعض العسكر ودخل عكا على غرة من العدو تقوية لمن فيها ولم يزل يبعث إليها بعثاً بعد بعث حتى حصل فيها خلق كثير وعدد وافر ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلباً وسار من الخروبة وكان قد نزل عليها خامس عشر الشهر فسار منها حتى أتى تل كيسان في أوائل مرج عكا وأمر الناس أن ينزلوا به على تلك التعبية وكان آخر الميسرة على طرف النهر الحلو وآخر الميمنة مقارب تل العياضية فاحتاط العسكر الإسلامي المنصور بالعدو المخذول وأخذ عليهم الطرف من الجوانب وتلاحقت العساكر الإسلامية واجتمعت ورتب اليزك الدائم والجاليش في كل يوم مع العدو وحصر العدو في خيامه من كل جانب بحيث لا يقدر أن يخرج منها واحد إلا ويجرح أو يقتل وكان معسكر العدو على شطر من عكا وخيمة ملكهم على تل المصليين قريباً من باب البلد وكان عدد راكبهم ألفي فارس وعدد راجلهم ثلاثين ألفاً وما رأيت من أنقصهم عن ذلك ورأيت من حزرهم بزيادة على ذلك ومددهم من البحر لا ينقطع وجرى بينهم وبين اليزك مقاتلات عظيمة متواترة والمسلمون يتهافتون على قتالهم والسلطان يمنعهم من ذلك إلى وقته والبعوث من العساكر الإسلامية تتواصل والملوك والأمراء من الأقطار تتابع فأول من وصل الأمير الكبير مظفر الدين بن زين الدين ثم قدم بعده الملك المظفر صاحب حماة وفي أثناء هذا الحال توفي حسام الدين سنقر الأخلاطي وأسف المسلمون عليه أسفاً شديداً فإنه كان شجاعاً ديّناً ثم إن الإفرنج لما تكاثروا واستفحل أمرهم استداروا بعكا حيث منعوا من الدخول والخروج وذلك في يوم الخميس سلخ رجب ولما رأى السلطان ذلك عظم لديه وضاق صدره وثارت همته العلية وفتح الطريق إلى عكا لتستمر السابلة إليها بالميرة والنجدة وغير ذلك فأحضر أمراءه وأصحاب الرأي من دولته وشاورهم في مضايقة القوم وانفصل لحمال على أنه يضايقهم مضايقة شديدة بحيث ينفصل أمرهم بالكلية ويفتح وباب والطريق إلى عكا فباكرهم صبيحة الجمعة مستهل شعبان وسار مع العسكر القد رتبه للقتال ميمنة وميسرة وقلباً وضايقهم مضايقة شديدة وكانت الحملة بعد صلاة الجمعة اغتناماً لدعاء الخطباء على المنابر وجرت حملات عظيمة وقلبات كثيرة واتصل الحرب إلى أن حال بين الفئتين هجوم الليل وبات الناس على حالهم من الجانبين شاكي السلاح تحرس كل طائفة نفسها من الطائفة الأخرى. ولما كانت صبيحة السبت أصبح الناس على القتال وأنفذ السلطان طائفة من شجعان المسلمين إلى البحر من شمالي عكا ولم يكن هناك للعدو خيم لكن العسكر كان قد امتد جريدة إلى البحر فحملوا عليهم فانكسروا بين أيديهم كسرة عظيمة وقتلوا منهم جمعاً كثيراً وانكف السالمون منهم إلى خيامهم وهجم المسلمون خلفهم إلى أوائل خيامهم وانفتح الطريق إلى عكا من باب القلعة المسماة بقلعة الملك إلى باب قراقوش الذي جدده وصار الطريق مهيعاً يمر فيه السوقي ومعه الحوائج ويمر به الرجل الواحد والمرأة واليزك بين الطريق وبين العدو مانعاً من يخرج من عسكرهم أو يدخل ودخل السلطان في ذلك اليوم إلى عكا ورقي على السور ونظر إلى عسكر العدو تحت السور وفرح المسلمون بنصر الله وخرج العسكر الذي كان في خدمة السلطان واستدار العسكر الإسلامي حول المعسكر الإفرنجي وأحدقوا بهم من كل جانب ولما استقر به ذلك تراجع الناس عن القتال وذلك بعد الظهر لسقي الدواب وأخذ الراحة وكان نزولهم على أنهم إذا أخذوا حظاً من الراحة عادوا إلى القتال لمناجزة القوم وضاق الوقت وأخذ الضجر والتعب من الناس فلم يرجعوا إلى القتال في ذلك اليوم وبات الناس على أنهم يصبحونهم بكرة الأحد إلى القتال رجاء المناجزة بالكلية واختفى العدو في خيامهم بحيث لم يظهر منهم أحد. ولما كانت بكرة الأحد ثالث شعبان تعبى الناس للقتال وأحدقوا بالعدو وعزموا على مهاجمة القوم وعلى أن يترجل الأمراء ومعظم العسكر ويقاتلوا العدو في خيامه فلما تهيئوا لذلك رأى بعض الأمراء تأخير ذلك إلى بكرة الاثنين رابع شعبان وأن يدخل الراجل كله إلى داخل عكا ويخرجوا مع العسكر المقيم بالبلد من أبواب البلد على العدو من ورائه وتركب العساكر الإسلامية من خارج من سائر الجوانب ويحملوا حملة الرجل الواحد والسلطان يوالي هذه الأمور بنفسه ويكافحها بذاته لا يتخلف عن مقام من هذه المقامات وهو من شدة حرصه ووفور همته كالوالدة الثكلى ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئاً يسيراً لفرط اهتمامه وفعلوا ما كان عزم عليه واشتدت منعة العدو وحمى نفسه في خيامه ولم تزل سوق الحرب قائمة تباع فيها النفوس بالنفائس وتمطر سماء حربها الرؤوس من كل رئيس ومترائس حتى كان يوم الجمعة ثامن شعبان. ولما كان الثامن عزم العدو على الخروج بجموعهم فخرج راجلهم وفارسهم وامتدوا على التلول وساروا الهوينا غير مفرطين في أنفسهم ولا خارجين من راجلهم حيث كانت الرجالة حولهم كالسور المبني يتلو بعضه بعضاً حتى قاربوا خيام اليزك ولما رأى المسلمون ذلك وإقدام العدو عليهم شدوا وتنازعت الشجعان وتنازلت الكماة إلى الأقران وصاح السلطان بالعساكر الإسلامية يا للإسلام فركب الناس بأجمعهم ووافق فارسهم راجلهم وشابهم وشيخهم وحملوا حملة الرجل الواحد على العدو المخذول فعاد ناكصاً على عقبيه والسيف يعمل فيهم والسالم منهم جريح. والعاطب طريح مشتدون هزيمة يعبر جريحهم بقتيلهم ولا تلوي الجماعة منهم على قتيلهم حتى لقي الخيام من سلم منهم وانكفوا عن القتال أياماً وكان رأيهم أن يحفظوا نفوسهم ويحرسوا رؤوسهم واستقر فتح طريق عكا والمسلمون يترددون إليها وكنت ممن دخل ورقي على السور ورمى العدو بما يسر الله تعالى من فوق السور ودام القتال بين الفئتين متصلاً الليل والنهار حتى كان الحادي عشر من شعبان ورأى السلطان توسيع الدائرة عليهم لعلهم يخرجون إلى مصارعهم فنقل الثقل إلى تل العياضية وهو تل قبالة تل المصليين مشرف على عكا وخيام العدو وفي هذه المنزلة توفي حسام الدين طمان وكان من الشجعان ودفن في سفح هذا التل وصليت عليه مع جماعة من الفقهاء ليلة نصف شعبان وقد مضى من الليل هزيع رحمه الله. وكان سبب ذلك أنه بلغنا أن جمعاً من العدو يخرجون للاحتشاش من طرف النهر مما ينبت عليه فأكمن السلطان لهم جماعة من العرب وقصد العرب لخفتهم على خيلهم وأمنه عليهم فخرجوا ولم يشعروا بهم فهجموا عليهم وقتلوا منهم خلقاً عظيماً وأسروا جماعة وأحضروا رؤوساً عديدة بين يديه فخلع عليهم وأحسن إليهم وكان ذلك في السادس عشر وفي عشية ذلك اليوم وقع بين العدو وبين أهل البلد حرب عظيم قتل فيه جمع عظيم من الطائفتين فطال الأمر بين الفئتين وما يخلوا يوماً من قتل وجرح وسبي ونهب وأنس البعض بالبعض بحيث أن الطائفتين كانا يتحدثان ويتركان القتال وربما غنى البعض ورقص البعض لطول المعاشرة ثم يرجعون إلى القتال بعد ساعة وكان الرجال يوماً من الطائفتين قد سئموا من القتال فقالوا إلى كم نقاتل الكبار وليس للصغار حظ نريد أن يتصارع صبيان منا ومنكم فأخرج صبيّان من البلد إلى صبيين من الإفرنج واشتد الحرب بينهم فوثب أحد الصبيين المسلمين إلى أحد الكافرين فاختطفه وضرب به الأرض وقبضه أسيراً فاشتراه بعض الإفرنج بدينارين وقالوا هو أسيرك حقاً فخذ الدينارين وأطلقه. وهذه نادرة غريبة ووصل للفرنج مركب فيه خيل فهرب منها فرس ووقع في البحر وما زال يسبح وهم حوله يردونه حتى دخل ميناء عكا وأخذه المسلمون. وذلك أنه لما كان يوم الأربعاء الحادي والعشرون تحركت عساكر الإفرنج حركة لم تكن لهم بمثلها عادة فارسهم وراجلهم وكبيرهم وصغيرهم فاصطفوا خارج خيمهم قلباً وميمنة وميسرة وفي القلب الملك وبين يديه الإنجيل محمولاً مستوراً بثوب أطلس مغطى يمسكه أربعة أنفس بأربعة أطراف وهم يسيرون بين يدي الملك وامتدت الميمنة في مقابلة الميسرة التي لعسكر الإسلام من أولها إلى آخرها وكذلك ميسرة العدو في مقابلة ميمنتنا إلى آخرها وملكوا رؤوس التلال وكان طرف ميمنتهم إلى النهر وطرف ميسرتهم إلى البحر. وأما العسكر الإسلامي المنصور فإن السلطان أمر الجاويش أن نادى في الناس يا للإسلام وعساكر الموحدين فركب الناس وقد باعوا أنفسهم بالجنة ووقفوا بين أيدي خيامهم وامتدت الميمنة إلى البحر والميسرة إلى النهر كذلك أيضاً وكان رحمه الله قد أنزل الناس في الخيم ميمنة وميسرة وقلباً تعبية الحرب حتى إذا وقعت صيحة لا يحتاجون إلى تجديد ترتيب وكان هو في القلب وفي ميمنة القلب ولده الملك الأفضل ثم عسكر المواصلة يقدمهم ظهر الدين بن البلنكري ثم عسكر ديار بكر في خدمة قطب الدين بن نور الدين صاحب الحصن ثم حسام الدين بن لاجين صاحب نابلس ثم الطواشي قايماز النجمي وجموع عظيمة متصلين بطرف الميمنة وكان في طرفها الملك المظفر تقي الدين بجحفله وعسكره وهو مطل على البحر وأما أوائل الميسرة فكان مما يلي القلب سيف الدين علي المشطوب وعلي بن أحمد من كبار ملوك الأكراد ومقدميهم والأمير علي وجماعة المهرانية والهكارية ومجاهد الدين برتقش مقدم عسكر سنجار وجماعة من المماليك ثم مظفر الدين بن زين الدين بجحفله وعسكره وأواخر الميسرة كبار المماليك الأسدية كسيف الدين يازكج ورسلان بغا وجماعة الأسدية الذين يضرب بهم المثل ومقدم القلب الفقيه عيسى وجمعه هذا والسلطان يطوف على الأطلاب بنفسه يحثهم على القتال ويدعوهم إلى النزال ويرغبهم في نصر دين الله ولم يزل القوم يتقدمون والمسلمون يقدمون حتى علا النهار ومضى فيه مقدار أربع ساعات وعند ذلك تحركت ميسرة العدو على ميمنة المسلمين فأخرج لهم الملك المظفر الجاليش وجرى بينهم قلبات كثيرة وتكاثروا على الملك المظفر وكان في طرف الميمنة على البحر فتراجع عنهم شيئاً إطماعاً لهم لعلهم يبعدون عن أصحابهم فينال منهم غرضاً فلما رأى السلطان ذلك ظن به ضعفاً وأمدّ بأطلاب عدة من القلب حتى قوي جانبه وتراجعت ميسرة العدو واجتمعت على تل مشرف على البحر ولما رأى الذين في مقابلة القلب ضعف القلب ومن خرج منه من الأطلاب داخلهم الطمع وتحركوا نحو ميمنة القلب وحملوا حملة الرجل الواحد راجلهم وفارسهم ولقد رأيت الرجالة تسير سير الخيالة وهم يسبقون حيناً وجاءت الحملة على الديار البكرية كما شاء الله تعالى وكان بهم غرة عن الحرب فتحركوا بين العدو وانكسروا كسرة عظيمة وسرى الأمر حتى انكسر معظم الميمنة واتبع العدو المنهزمين إلى العياضية فإنهم استداروا حول التل وصعد طائفة من العدو إلى خيمة السلطان فقتلوا طشت دار كان هناك وفي ذلك اليوم استشهد إسماعيل المكبس وابن رواحة رحمهما الله وأما الميسرة فإنها ثبتت لأن الحملة لم تصادفها وأما السلطان فأخذ يطوف على الأطلاب فينهضهم ويعدهم الوعود الجميلة ويحثهم على الجهاد وينادي فيهم يا للإسلام ولم يبق معه إلا خمسة أنفس وهو يطوف على الأطلاب ويخرق الصفوف ويأوي إلى تحت التل الذي كان عليه الخيام وأما المنهزمون من العسكر فإنهم بلغتهم هزيمتهم إلى الفخوانة قاطع جسر طبرية وأم منهم قوم محروسة دمشق فأما المتبعون لهم فإنهم اتبعوهم إلى العياضية فلما رأوهم قد صعدوا إلى الجبل رجعوا عنهم وجاءوا عائدين إلى عسكرهم فلقيهم جماعة من الغلمان والخزيندية والساسة منهزمين على بغال الحمل فقتلوا منهم جماعة ثم جاءوا على رأس السوق فقتلوا جماعة وقتل منهم جماعة فإن السوق كان عظيماً ولهم سلاح وأما الذين صعدوا إلى الخيام السلطانية فإنهم لم يلتمسوا فيها شيئاً أصلاً سوى أنهم قتلوا من ذكرنا وهم ثلاثة نفر رأوا ميسرة الإسلام ثابتة فعلموا أن الكسرة لا تتم فعادوا منحدرين من التل يطلبون عسكرهم وأما السلطان فإن كان واقفاً تحت التل ومعه نفر يسير وهو يجمع الناس ليعودوا إلى المحلة على العدو فلما رأوا الإفرنج نازلين من التل أرادوا لقاءهم فأمرهم بالصبر إلى أن ولوا ظهورهم واشتدوا يطلبون أصحابهم فصاح في الناس فحملوا عليهم فطرحوا منهم جماعة فاشتد الطمع فيهم وتكاثر الناس وراءهم حتى لقوا أصحابهم والطرد وراءهم فلما رأوهم منهزمين والمسلمون وراءهم في عدد كثير ظنوا أن من حمل منهم قد قتل وإنهم إنما نجا منهم هذا النفر فقط وأن الهزيمة قد عادت عليهم فاشتدوا في الهرب والهزيمة وتحركت الميسرة عليهم وعاد الملك المظفر بجمعه من الميمنة وتجمعت الرجال وتداعت وتراجع الناس من كل جانب وكذب الله الشيطان ونصر الإيمان وظل الناس في قتل وطرح وضرب وجرح إلى أن اتصل المنهزمون السالمون إلى عسكرهم فهجم عليهم في الخيام فخرج منهم أطلاب كانوا أعدوها خشية من مثل هذا الأمر مستريحة فردوا المسلمين وكان التعب قد أخذ من الناس والعرق قد ألجمهم فرجع الناس عنهم بعد صلاة العصر يخوضون في القتلى ودمائهم إلى خيامهم فرحين مسرورين وجلسوا في خيمته يتداركون من فقد الغلمان وكان مقدار من فقد من الغلمان المجهولين مائة وخمسين نفراً ومن المعروفين استشهد ظهر الدين أخو الفقيه عيسى ولقد رأيته وهو جالس يضحك والناس يعزونه وهو ينكر عليهم ويقول هذا يوم الهناء لا يوم العزاء وكان هو قد وقع عن فرسه وركبه فرأيته وقتل عليه جماعة من أقاربه وقتل في ذلك اليوم الأمير مجلئ هذا الذي قتل من المسلمين وأما من العدو المخذول فحزر قتلاهم بسبعة آلاف نفر ورأيتهم وقد حملوهم إلى شاطئ النهر ليلقوا فيه فحزرتهم بدون سبعة آلاف ولما تم على المسلمين من الهزيمة ما تم ورأى الغلمان خلو الخيام عمن يعترض عليهم فإن العسكر انقسم إلى قسمين منهزمين ومقاتلين فلم يبق في الخيام أحد وراءنا فظنوا أن الكسرة تتم وأن العدو ينهب جميع ما في الخيام فوضعوا أيديهم في الخيام ونهبوا جميع ما كان فيها وذهب من الناس أموال عظيمة وكان ذلك أعظم من الكسرة وقعاً. ولما عاد السلطان إلى الخيم ورأى ما قد تم على الناس من نهب الأموال والهزيمة سارع إلى الكتب والرسل في رد المنهزمين وتتبع من شذ من العسكر والرسل تتابع في هذا المعنى حتى بلغت عقبة فيتق وأخذوهم بالكرة إلى عسكر المسلمين فعادوا وأمر بجمع الأقمشة من أكف الغلمان إلى خيمته جلالات الخيل والمخالي بين يديه في خيمته وهو جالس ونحن حوله وهو يتقدم إلى كل من عرف شيئاً وحلف عليه يسلم إليه وهو يلقى هذه الأحوال بقلب صلب. وصدر رحب. ووجه منبسط ورأى مستقيم غير مختبط. واحتساب لله تعالى وقوة عزم في نصرة دين الله وأما العدو المخذول فإنه عاد إلى خيمة وقد قتل شجعانهم وطرحت مقدموهم وفقدت ملوكهم فأمر السلطان أن خرج من عكا عجل يسحبون عليه القتلى منهم إلى طرف النهر ليلقوا فيه ولقد حكى لي بعض من ولي أمر العجل أنه أخذ خيطاً وكان كلما أخذ قتيلاً عقد عقدة فبلغ عدد قتلى الميسرة أربعة آلاف ومائة وكسور وبقي قتلى الميمنة وقتلى القلب لم يعدهم فإنه ولي أمرهم غيره وبقي من العدو بعد ذلك من حمى نفسه وأقاموا في مخيمهم لم يكترثوا بجحافل المسلمين وعساكرهم وتشتت من عساكر المسلمين خلق كثير بسبب الهزيمة فإنه ما رجع منها إلا رجل معروف يخاف على نفسه والباقون وهربوا في حال سبيلهم وأخذ السلطان في جمع الأموال المنهوبة وإعادتها إلى أصحابها وأقام المناداة في العساكر وقرن النداء بالوعيد والتهديد وهو يتولى تفرقتها بين يديه واجتمع من الأقمشة عدد كثير في خدمته حتى أن الجالس في أحد الطرفين لا يرى الجالس في الطرف الآخر وأقام من ينادي على من ضاع منه شيء فحضر الخلق وسار من عرف شيئاً وأعطى علامته حلف وأخذه من الحبل والمخازة إلى الهميان والجوهر ولقي من ذلك مشقة عظيمة ولا يرى ذلك إلا نعمة من الله تعالى يشكر عليها. ويسابق بيد القبول إليها. ولقد حضرت يوم تفرقت الأقمشة على أربابها فرأيت سوقاً للعدل قائمة لم ير في الدنيا أعظم منها وكان ذلك في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان وعند انقضاء هذه الواقعة وسكون ثأرتها أمر السلطان بالثقل حتى تراجع إلى موضع يقال له الخروبة خشية على العسكر من روائح القتلى وآثار الوخم من الوقعة وهو موضع قريب من مكان الوقعة إلا أنه أبعد عنها من المكان الذي كان نازلاً فيه بقليل وضربت له خيمة عند الثقل وأمر اليزك أن يكون مقيماً في المكان الذي كان نازلاً فيه وذلك في التاسع والعشرين واستحضر الأمراء وأرباب المشورة في سلخ الشهر ثم أمرهم بالإصغاء إلى كلامه وكنت من جملة الحاضرين ثم قال بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله. اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا قد نزل في بلدنا وقد وطء أرض الإسلام. وقد لاحت لوائح النصر عليه وإن شاء الله تعالى وقد بقي في هذا الجمع اليسير ولا بد من الاهتمام بقلعه والله قد أوجب علينا ذلك وأنتم تعلمون أن هذه عساكرنا ليس وراءنا نجدة ننتظرها سوى الملك العادل وهو واصل وهذا العدو إن بقي وطال أمره إلى أن يفتح البحر جاءه مدد عظيم والرأي كل الرأي عندي مناجزتهم فلينجزنا كل منكم ما عنده في ذلك وكان ذلك في ثالث عشر تشرين من الشهور الشمسية وامتخضت الآراء وجرى تجاذب في أطراف الكلام وانفصلت آراؤهم على أن المصلحة تأخير العسكر إلى الخروبة وأن يبقى العسكر أياماً حتى يستجم من حمل السلاح وترجع النفوس إليهم فقد أخذ التعب منهم واستولى على نفوسهم الضجر وتكليفهم أمراً على خلاف ما تحمله القوي لا تؤمن غائلته والناس لهم خمسون يوماً تحت السلاح وفوق الخيل والخيل قد ضجرت من عرك اللجم وسئمت نفوسها ذلك. وعند أخذ حظ من الراحة ترجع نفوسها إليها ويصل الملك العادل ويشاركنا في الرأي والعمل وسنعيد من شذ من العساكر ونجمع الرجالة ليقفوا في مقابلة الرجالة وكان بالسلطان التياث مزاجي قد عراه من كثرة ما حمل على قلبه وما عاناه من التعب يحمل السلاح والفكر في تلك الأيام فوقع ما قالوه ورأوه مصلحة. وكان انتقال العسكر إلى الثقل ثالث رمضان وانتقال السلطان تلك الليلة وأقام يصلح مزاجه ويجمع العساكر وينتظر أخاه إلى عاشر رمضان.
|