الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية **
ولما كان يوم الاثنين سلخ جمادى الأولى قوي استشعار المركيس أنه إن أقام قبضوا عليه وأعطوا صور للملك القديم الذي كان قد أسره السلطان لما عاناه من الأسر في نصرة دين المسح. ولما صح ذلك عنده هرب إلى صور فأنفذوا خلفه قسوساً ليردوه فلم يفعل وسار في البحر حتى أتى صور وشق ذلك عليهم وعظم لديهم فإنه كان ذا رأي وشجاعة وخبرة. وفي سلخ جمادى الأولى قدم عسكر سنجار يقدمه مجاهد الدين برتقش فلقيه السلطان واحترمه وكان ديناً عاقلاً محباً للغزو فأنزله السلطان في الميسرة بعد أن أكرمه وأنزله في خيمته وفرح بقدومه فرحاً شديداً في ذلك الوقت ثم قدم بعد ذلك قطعة عظيمة من عسكر مصر كعلم الدين كرجي وسيف الدين سنقر الداودار وجماعة عظيمة ثم قدم بعد ذلك علاء الدين صاحب الموصل وعسكرهم فلقيه السلطان بالخروبة ونزلوا هناك إلى بكرة اليوم الثاني من جمادى الآخرة وأصبح سائراً حتى أتى بجحفله قبالة العدو وعرض عسكره هناك وأنزله السلطان في خيمته وحمل له من التحف وقدم له من اللطائف ما يليق بكرمه وأنزله في الميمنة وفي الثالث قدمت طائفة من عسكر مصر أيضاً واشتد مرض الأنكتار بحيث شغل الإفرنج شدته عن الزحف وكان ذلك خيرة عظيمة من الله تعالى فإن البلد كان قد ضعف من فيه ضعفاً عظيماً وضاق بهم الخناق وهدمت المنجنيقات من السور مقدار قامة الرجل هذا واللصوص يدخلون إلى خيامهم ويسرقون أقمشتهم ويأخذون الرجال في غفلة بأن يجيئوا إلى الواحد وهو نائم فيضعوا على حلقه السكين ويوقظوه ويقولوا له بالإشارة إن تكلمت ذبحناك ويحملوه ويخرجوا به إلى العسكر وجرى ذلك مراراً وعساكر المسلمين تجتمع وتتواتر من كل جانب حتى تكامل وصولها. كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمس من جانب الأنكتار أن يجتمع بالسلطان وذكرت عذر السلطان عن ذلك وانقطع الرسول وعاد معاوداً في المعنى وكان في حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أياماً عنده بسبب مرضه واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه وأنكروا عليه ذلك وقالوا هذه مخاطرة بدين النصرانية ثم بعد ذلك وصل رسوله يقول لا تظن تأخري بسبب ما قيل فإن زمام قيادي مفوض إلي وأنا أحكم ولا يحكم علي غير أن في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني من الحركة فهذا كان العذر في التأخير لا غير وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا وعندي ما يصلح للسلطان وأنا أستخرج الأذن من إيصاله إليه فقال له الملك العادل قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية فرضي الرسول بذلك وقال: الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاج حتى نطعمها لتقوى ونحملها فداعبه الملك العادل وكان فقيهاً فيما يحدثهم به فقال: الملك قد احتاج إلى فراريج ودجاج ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة. ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر على أن قال الرسول: ما الذي أردتم منا. إن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع. فقيل له عن ذلك: نحن ما طلبناكم أنتم طلبتمونا فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع. وانقطع حديث الرسالة إلى سادس جمادى الأخرى فخرج رسول الأنكتار إلى السلطان ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه وأعاد مشرفاً مكرماً إلى صاحبه وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرف قوة النفس وضعفها وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرف ما عنده من ذلك أيضاً. ولم يزالوا يوالون على الأسوار بالمناجيق المتواصلة والضرب وتنقلوا أحجارها حتى خلخلوا سور البلد وأضعفوا بنيانه وأنهك التعب والسهر أهل البلد لقلة عددهم وكثرة الأعمال حتى أن جماعة منهم بقوا ليالي لا ينامون أصلاً لا ليلاً ولا نهاراً والخلق الذين عليهم عدد كثير يتناوبون على قتالهم وهم نفر يسير قد تقسموا على الأسوار والخنادق والمنجنيقات والسفن ولما أحس العدو بذلك وظهر لهم تخلخل السور وتقلقل بنيانه شرعوا في الزحف من كل جانب وانقسموا أقساماً وتناوبوا فرقاً كلما تعب قسم استراح وقام غيره مقامه وشرعوا في ذلك شروعاً عظيماً براجلهم وفارسهم سابع الشهر هذا مع عمارتهم أسوارهم الدائرة على خنادقهم بالرجالة والمقاتلة ليلاً ونهاراً ولما علم السلطان بذلك بإخبار من يشاهده وإظهار العلامة التي بيننا وبينهم وهي دق الكؤوس ركب وركب العسكر إليهم وجرى في ذلك اليوم قتال عظيم من الجانبين وهو كالوالدة الثكلى يحول بفرسه من طلب إلى طلب ويحث الناس على الجهاد ولقد بلغنا أن الملك العادل حمل بنفسه في ذلك اليوم مرتين والسلطان يطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي يا للإسلام وعيناه تذرفان بالدموع وكلما نظر إلى عكا وما حل بها من البلاء وما يجري على ساكنيها من المصاب العظيم اشتد في الزحف والحث على القتال ولم يطعم في ذلك اليوم طعاماً البتة وإنما شرب أقداح مشروب كان يشير بها الطبيب وتأخرت عن حضور هذا الزحف لإلمام مرض شوش مزاجي لما عراني فكنت في الخيمة في تل العياضية وأنا أشاهد الجميع ولما هجم الليل عاد رحمه الله إلى الخيم بعد العشاء الآخرة وقد أخذ منه التعب والكآبة والحزن فنام لا عن عفو. ولما كان سحر تلك الليلة أمر الكؤوس أن دقت وركب العساكر من كل جانب وأصبحوا على ما أمسوا عليه وفي ذلك اليوم وصلت مطالعة عن البلد يقولون فيها أنا قد بلغ منا العجز إلى غاية ما بعدها إلا التسليم ونحن في الغد ثامن الشهر إن لم تعملوا شيئاً نطلب الأمان ونسلم البلد ونشتري مجرد رقابنا وكان هذا أعظم خبر ورد على المسلمين وأنكى في قلوبهم فإن عكا كانت قد احتوت على جميع سلاح الساحل والقدس ودمشق وحلب ومصر وجميع البلاد الإسلامية واحتوت على كبار من أمراء العسكر وشجعان الإسلام كسيف الدين المشطوب وبهاء الدين قراقوش وغيرهما وكان قراقوش ملتزماً بحراستها منذ نزل العدو عليها وأصاب السلطان ما لم يصبه شيء مثله وخيف على مزاجه التشويش وهو لا يقطع ذكر الله والرجوع إليه في جميع ذلك صابراً محتسباً ملازماً مجتهداً والله لا يضيع أجر المحسنين فرأى الدخول على القوم ومهاجمتهم فصاح في العسكر الصائح وركبت الأبطال فاجتمع الراجل والفارس واشتد الزحف ولم يساعده العسكر في ذلك اليوم على الهجوم على العدو فإن رجالته وقفوا كالسور المحكم البناء بالسلاح والزنبورك والنشاب من وراء أسوارهم وهجم عليهم بعض الناس من بعض أطرافهم فثبتوا وذبوا غاية الذب ولقد حكى بعض من دخل عليهم أسوارهم أنه كان هناك راجل واحد إفرنجي صعد سور خندقهم واستدبر المسلمين وإلى جانبه جماعة يناولونه الحجارة وهو يرميها على المسلمين الذين يلاصقون سور الخندق وقال إنه وقع فيه زهاء خمسين سهماً وحجراً ولا يمنعه ذلك عما هو بصدده من الذب والقتال حتى ضربه زراق مسلم بقارورة فارقه. ولقد حكى لي شيخ عاقل جندي أنه كان من جملة من دخل قال وكان داخل سورهم امرأة عظيمة عليها ملوطة خضراء فما زالت ترمينا بقوس من خشب حتى خرجت منا جماعة وتكاثرنا عليها وقتلناها وأخذنا قوسها وحملنا إلى السلطان فعجب من ذلك عجباً عظيماً ولم يزل الحرب يعمل بين الطائفتين بالقتل والجرح حتى فصل بينهم الليل. ووقوع المراسلة بين أهل البلد والإفرنج ولما اشتد زحفهم على البلد وتكاثروا عليها من كل جانب وتناوب ضعف أهل البلد لما رأوه من عين الهلاك واستشعروا العجز عن الدفع وتمكن العدو من الخنادق فملكوها وتمكنوا من سور الباشورة فنقبوه وأشعلوا فيه النار بعد حشو النقب ووقعت بدنة من الباشورة ودخل العدو الباشورة وقتل منهم فيها مائة وخمسون نفراً وصاعداً وكان فيهم ستة من كبارهم فقال لهم واحد لا تقتلوني حتى أرحل الفرنج عنكم بالكلية فبادر رجل من الأكراد فقتله وقتل الخمسة الأخرى وفي الغد نادى الإفرنج احفظوا الستة فإنا نطلقكم كلكم بهم فقالوا قد قتلناهم فحزن الإفرنج لذلك حزناً عظيماً وطلبوا الزحف بعد ذلك أياماً ثلاثة. وبلغنا أن سيف الدين المشطوب خرج بنفسه إلى ملك الفرنسيس بالأمان وقال له قد أخذنا منكم بلاداً عدة وكنا نهجم البلد وندخل فيه ومع هذا إذا سألونا الأمان أعطيناهم وحملناهم إلى مأمنهم وإكرامهم ونحن نسلم البلد وتعطينا الأمان على أنفسنا فأجابه بأن هؤلاء الملوك الذين أخذتموهم منا وأنتم أيضاً مماليكي وعبيدي فأرى فيكم رأيي وبلغنا أن المشطوب بعد ذلك أغلظ له في القول وقال أقاويل كثيرة في ذلك المقام منها أنا لا نسلم البلد حتى نقتل بأجمعنا ولا يقتل منا واحد حتى يقتل خمسون نفساً من كباركم وانصرف عنه. ولما دخل المشطوب البلد بهذا الخبر خاف جماعة ممن كانوا في البلد فأخذوا بركوساً وركبوا فيه ليلاً خارجين إلى العسكر الإسلامي منهم أرسل ولبن الجاولي وسنقر الوشاقي فأما أرسل وسنقر فإنهما تغيبا في العسكر ولم يعلم لهما مكان خشية من نقمة السلطان. وأما ابن الجاولي وفي سحر تلك الليلة ركب السلطان مشعراً أنه يواصل كبس القوم ومعه المساحي وآلات طم الخنادق فما ساعده العسكر على ذلك وتخاذلوا عن ذلك وقالوا نخاطر بالإسلام كله ولا مصلحة في ذلك. وفي ذلك اليوم خرج من الأنكتار رسل ثلاثة طلبوا فاكهة وثلجاً وذكروا أن مقدم الأسبتار يخرج في الغد يتحدث في معنى الصلح غير أن السلطان أكرمهم سوق العسكر وتفرجوا فيه وعادوا تلك الليلة إلى عسكرهم. وفي ذلك اليوم تقدم إلى صارم الدين قايماز النجمي حتى يدخل هو وأصحابه إلى أسوارهم وترحل جماعة من أمراء الأكراد كالجناح وأصحابه وهو المشطوب وزحفوا حتى وصلوا أسوار الإفرنج ونصب قايماز بنفسه علمه على سورهم وقاتل عن العلم قطعة من النهار ووصل في ذلك اليوم عز الدين جرديك النوري وسوق الزحف قائم فترجل هو وجماعته وقاتل قتالاً شديداً واجتهد الناس اجتهاداً عظيماً. وفي العاشر أصبح القوم ساكتين عن الزحف والعساكر الإسلامية محدقة بهم وقد باتوا ليلتهم شاكي السلاح راكبي ظهور خيلهم منتظرين عسى أن تمكنهم مساعدة إخوانهم المقيمين بعكا ويهجموا على طرف من الإفرنج فيكسروهم ويخرجوا يحمي بعضهم بعضاً ويخرج العسكر يجاوبهم من هذا الجانب فيسلم من سلم ويؤخذ من أخذ فلم يقدروا على الخروج وكان قد ثبت ذلك معهم فلم يتهيأ لهم في تلك الليلة خروج بسبب أنه كان هرب منهم بعض الغلمان فأخبر العدو بذلك فاحتاطوا بهم وحرسوهم حراسة عظيمة. ولما كان يوم الجمعة العاشر خرج منهم رسل ثلاثة واجتمعوا بالملك العادل وتحادثوا معه ساعة زمانية وعادوا ولم ينفصل الحال وانقضى النهار على مقام المسلمين بالمرج في مقابلة العدو وباتوا على مثل ذلك. ولما كان السبت الحادي عشر لبست الفرنج بأسرها لباس الحرب وتحركوا حركة عظيمة بحيث أنهم اعتقدوا رجلكان صاف واصطفوا وخرج من الباب الذي تحته القبة زهاء أربعين نفساً واستدعوا جماعة من المماليك وطلبوا منهم العدل الزيداني وذكروا أنه صاحب صيداً طليق السلطان فحضر العدل وجرى مبادلة أحاديث في معنى إطلاق العسكر الذي بعكا واشتطوا في ذلك اشتطاطاً عظيماً وتصرم نهار السبت ولم ينفصل حال. ولما كان يوم الأحد ثاني عشر وصلت كتب يقولون فيها إنا قد تبايعنا على الموت ولا نزال نقاتل حتى نقتل ولا نسلم هذا البلد ونحن أحياء فانظروا أنتم كيف تعملون في شغل العدو عنا ودفعه عن قتالنا فهذه عزائمنا وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو وتلينوا لهم فإنا نحن قد فات أمرنا وذكر العوام الواصل بهذه الكتب أنه لما وقع بالليل الصوت ظن الإفرنج أن عسكراً عظيماً عبر إلى عكا وسلم وسار فيها قال وجاء إنسان إفرنجي فوقف تحت السور وصاح إلى بعض من على السور وقال له بحق دينك إلا ما أخبرتني كم عدد العسكر الذي دخل إليكم البارحة يعني ليلة السبت وكان قد وقع بالليل صوت وانزعج الطائفتان ولم يكن له حقيقة فقال له ألف فارس فقال لا لكنه دون ذلك أنا رأيتهم لابسين ثياباً خضراً. ثم تتابعت العساكر الإسلامية واندفع كيد العدو عن القوم في تلك الليلة بعد أن كان قد أشرف البلد على الأخذ وفي يوم الخميس سادس عشر وصل أسد الدين شيركوه واشتد ضعف البلد وكثرت ثغور سوره وجاهد المقيمون فيه وبنوا عوض الثلم سوراً من داخلها حتى إذا تم بناؤه اقتتلوا عليه واشتد ثبات الإفرنج على أنهم لا يصالحون ولا يعطون الذين في البلد أماناً حتى يطلق جميع الأسارى الذين في أيدي المسلمين وتعاد البلاد الساحلية إليهم وبذل لهم تسليم البلد وما فيه دون ما فيه فلم يفعلوا وبذل لهم أيضاً مع ذلك صليب الصلبوت فلم يفعلوا واشتد عتوهم واستفحل أمرهم وضاقت الحبل عنهم ومكروا والله خير الماكرين. ولما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة خرج العوام من الثغر ونطقت الكتب عنهم أن أهل البلد ضاق بهم الأمر وكثرت الثغر وعجزوا عن الحفظ والدفع ورأوا عين الهلاك وتيقنوا أنه متى أخذت البلد عنوة ضربت أعناقهم عن آخرهم وأخذ جميع ما فيه من العدد والأسلحة والمراكب وغير ذلك فصالحهم على أن يسلمون إليهم البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدد والمراكب ومائتي ألف دينار وألف وخمسمائة فارس أسير مجاهيل الأحوال ومائة فارس معينين من جانبهم يختارون وصليب الصلبوت ويخرجون بأنفسهم سالمين وما معهم من الأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونساؤهم وضمنوا للمركيس عشرة آلاف دينار أنه كان واسطة ولأصحابه أربعة آلاف دينار واستقرت القاعدة على ذلك. ولما وقف السلطان على كتبهم وعلى مضمونها أنكر ذلك إنكاراً عظيماً وعظم عليه هذا الأمر وجمع أرباب المشورة وشاورهم فيما يصنع واضطرب الأمراء وتقسم فكره وتشوش وعزم على أن يكتب في الليلة مع العوام وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه وهو في مثل هذه الحال فما أحس المسلمون إلا وقد ارتفعت أعلام الكفر وصلبانه وشعاره وناره على أسوار البلد وذلك في ظهر نهار الجمعة سابع عشر جمادى الآخرى سنة سبع وثمانين وخمسمائة وصاح الإفرنج صيحة واحدة وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزن الموحدين وانحصر كلام العقلاء من الناس في تلاوة إنّا لله وإنا إليه راجعون. وغشي الناس بغتة عظيمة وحيرة شديدة ووقع في العسكر الصياح والعويل والبكاء والنحيب وكان لكل قلب حظ في ذلك قدر إيمانه ولكل إنسان نصيب من هذا الخطب على مقدار ديانته ونخوته وانقشعت الحال على أنه قد استقرت القاعدة بين أهل البلد وبين الإفرنج على ذلك الحال المتقدم وأن المركيس دخل البلد ومعه أعلام الملوك فنصب علماً على القلعة وعلماً على مأذنة الجامع في يوم الجمعة وعلماً على برج القتال عوضاً عن علم الإسلام وحيز المسلمون إلى بعض أطراف البلد وجرى على أهل الإسلام المشاهدين لذلك الحال ما كثر التعجب من الحياة معه ومثلت في خدمة السلطان وهو أشد حالة من الوالدة الثكلى والمولهة الحراء فسليته بما تيسر لي من التسلية وأذكرته في الفكر فيما يستقبله من الأمر في معنى البلاد الساحلية والقدس الشريف وكيفية الحال في ذلك وإعمال الفكر في خلاص المسلمين المأسورين في البلد وذلك في ليلة السبت الثامن عشر وانفصل الحل على أن رأى التأخير عن تلك المنازلة مصلحة فإنه لم يبق في المضايقة معنى فتقدم بنقل الأثقال ليلاً إلى المنزلة التي كان عليها أولاً بشفرعم وأقام هو جريدة في مكانه لينظر ماذا يكون من أمر العدو وحال أهل البلد وأقام هو راضياً راجياً من الله تعالى أنه ربما حملهم غرورهم بالخروج إليه والهجوم عليه فينال منهم غرضاً ويلقي نفسه عليهم ويعطي الله النصر لمن شاء فلم يفعل العدو شيئاً من ذلك واشتغلوا بالاستيلاء على البلد والتمكن منه فأقام إلى بكرة التاسع عشر من الشهر وانتقل إلى الثقل وفي ذلك اليوم خرج منهم ثلاثة نفر مع الحاجب قوس بهاء الدين قراقوش وكان رجلاً عاقلاً مستخبرين ما وقع عقد الصلح عليه من المال والأسرى فأقاموا ليلة مكرمين وساروا إلى دمشق يبصرون الأسرى في الحادي والعشرين وأنفذ السلطان رسولاً إلى الفرنج يسألهم كيف جرت الحال ويستعلم كم مدة تحصيل ما وقعت عليه المصالحة واستقرت عليه المهادنة. ذكر وقعة جرت في أثناء ذلك ولما كان سلخ الشهر خرج الإفرنج من جانب البحر شمالي البلد وانتشروا انتشاراً عظيماً راجلهم وفارسهم وضربوا أطلاباً للقتال فأخبر اليزك بذلك السلطان فدق في الكؤوس وركب وأنفذ إلى اليزك وقواه برجال كثيرة وتوقف حتى ركبت العساكر الإسلامية واجتمعوا فوقع بين اليزك وبين العدو وقعة عظيمة وقتال شديد قبل اتصال العساكر باليزك وكان اليزك قد قوي بما أنفذ إليه فحملوا على العدو حملة عظيمة فانكسر العدو من بين أيديهم وانهزمت الخيالة وسلمت الرجالة وظنوا أن وراء اليزك كميناً فاشتدوا نحو خيامهم ووقع اليزك في الرجالة فقتل منهم زهاء خمسين نفراً ولم يزل السيف يعمل فيهم حتى دخلوا خنادقهم. وفي ذلك اليوم وصل رسل الإفرنج الذين ساروا إلى دمشق ليتفقدوا حال أسراهم ووصل معهم من مميزي أسراهم أربعة نفر ووصل في عيشته أيضاً رسل السلطان في تحرير أمر الأسارى المسلمين الذين كانوا بعكا ولم تزل الرسل تتردد بين الطرفين حتى كان تاسع رجب. خروج ابن باريك وفي ذلك اليوم خرج حسام الدين بن باريك المهراني ومعه اثنان من أصحاب الأنكتار فأخبرني أن الملك افرنسيس سار إلى صور وذكروا في تحرير أمر الأسارى وطلبوا أن يشاهدوا صليب الصلبوت وأنه في العسكر أو حمل إلى بغداد فأحضر صليب الصلبوت وشاهدوه وعظموه ورموا نفوسهم إلى الأرض ومرغوا وجوههم على التراب وخضعوا خضوعاً عظيماً لم ير مثله وذكروا أن الملوك قد أجابوا السلطان أن يكون ما وقع عليه القرار تروم ثلاثة كل شهر ترم ثم أرسل السلطان رسولاً إلى الفرنسيس سار إليه إلى صور بهدايا سنية وطيب كثير وثياب جميلة. وفي صبيحة العاشر من رجب انتقل السلطان بحلقته وخواصه إلى تل ملاصق لشفرعم ونزلت العساكر في منازلها على حالهم قريباً من منزلته أولى ليس بينهما إلا الوادي ولم تزل الرسل تتواتر في تحرير القاعدة وتنجيزها حتى حصل لهم ما كانوا التمسوه من الأسرى والمال المختص بذلك الترم وهو الصليت ومائة ألف دينار وستمائة أسير وأنفذوا ثقاتهم وشاهدوا الجميع ما عدا الأسارى المعينين من جانبهم فإنهم لم يكونوا فرغوا من تعيينهم ولم يكملوهم حتى يحصلوا ولم يزالوا يطاولون ويقصرون الزمان حتى انقضى الترم الأول في ثامن عشر رجب ثم أنفذوا في ذلك اليوم يطلبون ذلك فقال لهم السلطان إما أن تنفذوا إلينا أصحابنا وتستلموا الذي عين لكم من هذا الترم ونعطيكم رهائن على الباقي تصل إليكم في ترومكم الباقية وإما أن تعطونا رهائن على ما نسلم إليكم إلى أن يخرج إلينا أصحابنا فقالوا لا نفعل شيئاً من ذلك بل تسلمون إلينا ما يقضيه هذا الترم وتقنعون بإيماننا حتى نسلم إليكم أصحابكم فأبى السلطان ذلك لعلمه أنهم إن تسلموا المال والصليب والأسرى وأصحابنا عندهم لا يؤمن غدرهم ويكون وهن الإسلام عند ذلك وهناً عظيماً لا يكاد ينجبر. ولما رأى الأنكتار الملعون توقف السلطان ببذل المال والأسرى والصليب غدر بأسرى المسلمين وكان قد صالحهم وتسلم البلد منهم على أن يكونوا آمنين على نفوسهم على كل حال وأنه إن دفع السلطان إليهم ما استقر أطلقهم بأموالهم ونسائهم وإن امتنع من ذلك ضرب عليهم الرق وأخذهم أسرى فغدرهم الملعون وأظهر ما كان أبطن وفعل ما أراد أن يفعله بعد أخذ المال والأسرى على ما أخبر به عنه أهل ملته فيما بعد وركب هو وجميع العسكر الإفرنجية راجلهم وفارسهم والتراكيل في وقت العصر من يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب وساروا حتى أتوا الآبار التي تحت تل العياضية وقدموا خيامهم إليها وساروا حتى توسطوا المرج بين تل كيسان وبين العياضية ثم أحضروا من أسارى المسلمين من كتب الله شهادته في ذلك اليوم وكانوا زهاء ثلاثة آلاف في الحبال وجملوا عليهم جملة الرجل الواحد فقتلوهم صبراً ضرباً وطعناً بالسيف واليزك الإسلامي يشاهدون ولا يعلمون ماذا يصنعون لبعدهم عنهم وكان اليزك قد أنفذ إلى السلطان وأعلموه بركوب القوم ووقوفهم فأنفذ إلى اليزك من قواه وبعد أن فرغوا منهم حمل المسلمون عليهم وجرت بينهم حرب قتل فيها وجرح من الجانبين ودام القتال إلى أن فصل الليل بين الفريقين وأصبح المسلمون يكشفون الحال فوجدوا الشهداء في مصارعهم وعرفوا من عرفوه منهم فغشي المسلمين من ذلك حزن عظيم وكآبة شديدة ولم يبقوا إلا رجلاً معروفاً مقداماً أو قوي يد لعمائرهم وذكر لقتلهم أسباب منها أنهم قتلوهم في مقابلة من قتل منهم وقيل إن الأنكتار كان قد عزم على السير إلى عسقلان للاستيلاء عليها فما رأى أن يخلف تلك العدة في البلد وراءه والله أعلم. وانتقاله إلى طرف البحر من جانب الغرب ولما كان التاسع والعشرون من رجب الإفرنج بأسرهم وقلعوا خيامهم وحملوها على دوابهم وساروا حتى قطعوا النهر إلى الجانب الغربي وضربوا الخيام على طريق عسقلان وأظهروا العزم على المسير على شاطئ البحر وأمر الأنكتار باقي الناس أن يدخلوا إلى البلد وكانوا قد سدوا ثغره وثلمه أو أصلحوا ما انهدم منه وكان مقدم العسكر الخارج السائر الأنكتار وجمع عظيم من الرجالة والخيالة ولما كان مستهل شعبان اشتعلت نيران العدو في سحر ذلك اليوم وعادتهم أنهم إذا أرادوا الرحيل أشعلوا نيرانهم وأخبر اليزك بحركاتهم فأمر السلطان الثقل أن يرفع حتى يبقى الناس على ظهر ففعل الناس ذلك وهلك من الناس قماش كثير وحوائج كثيرة من السوقة لم تكن معهم خيل ولا ظهر يحمل جميع ما عندهم لأن كل إنسان كان يحصل ما يحتاج إليه في أشهر وكل واحد من السوقة عنده ما ينفذ من منزل إلى منزل في مرار متعددة لكن هذا المنزل لم يمكن أن يتخلف فيه أحد لقربه من الإفرنج الذين بعكا والخوف منهم ولما أن علا النهار شرع العدو في السير على جانب البحر وتفرقوا قطعاً كثيرة كل قطعة تحمي عن نفسها وقوّى السلطان اليزك وأنفذ معظم العساكر قبالتهم فمضوا وقاتلوهم قتالاً شديداً وأنفذ ولده الملك الأفضل يخبر أنه قطع طائفة منهم عن الموافقة ولقد نازلناهم بالقتال ولو قوينا لأخذناهم فسير السلطان خلقاً عظيماً من العسكر وسار هو بنفسه وأنا في خدمته حتى أتى أوائل الرمل فلقينا الملك العادل فأخبر أخاه أن تلك الطائفة قد التجأت بالطائفة الأولى ومعظم القوم قد عبروا نهر حيفا وقد نزلوا والباقون قد لحقوا بهم وليس للمسير وراءهم حاصل إلا إتعاب العسكر وضياع النشاب لا غير فتراجع السلطان عن القوم لما تحقق ذلك وأمر طائفة من العسكر أن تسير وراء الثقل تلحق ضعيفهم بقويهم وتكف عنهم أن يلحق بهم من العدو والطماعة وسار هو حتى وصل إلى القيمون عصر ذلك النهار فنزل وضرب له الدهليز وشق دائرة حوله لا غير واستحضر الجماعة فأكلوا شيئاً واستشارهم فيما يفعل. المنزل الثاني: اتفق رأي جماعة على أنهم يرحلون بكرة غد. هذا وقد رتب حول الإفرنج يزكاً يبيتون حوله يرقبون أمره. ولما كان صباح ثاني شعبان رحل السلطان الثقل وأقام هو يترصد أخبار العدو فلم يصل منهم شيء إلى أن علا النهار فسار في أثر الثقل حتى أتى قرية يقال لها الصباغين فجلس ساعة يترقب أخبار العدو وكان قد خلف جرديك قريب العدو وتعقب خلق عظيم باتوا قريب العدو فلم يصله خبر أصلاً فسار حتى أتى الثقل في منزلة يقال لها عيون الأساود ولما بلغنا المنزل رأينا خياماً فسأل عنها فقيل إنها خيام الملك العادل فعدل لينزل عنده فأقام عنده ساعة ثم أتى خيمته وفقد الخبز في هذه المنزلة بالكلية وغلا الشعير حتى بلغ درهماً وبلغ رطل البقسماط درهمين ثم أقام السلطان حتى عبر وقت الظهر وركب وسار إلى موضع يسمى الملاحة يكون منزلاً للعدو إذا رحلوا من حيفا وكان قد سبق ليفقد المكان هل يصلح للمصاف أم لا ويتفقد أراضي قيسارية بأسرها إلى الشعرا وعاد إلى المنزل بعد دخول وقت العشاء الآخرة وقد أخذ منه التعب وسألته عما بلغه من خبر العدو فقال وصل إلينا من أخبرنا أنه ما رحل من حيفا إلى عصر يومنا هذا يعني ثاني شعبان وها نحن مقيمون مرتقبون أخبارهم ويكون العمل بمقتضاها وبات تلك الليلة وأصبح مقيماً بتل الزلزلة ينتظر العدو نادى الجاويش بالعسكر للعرض فركب الناس على ترتيب المصاف وأبهته. ولما علا النهار نزل السلطان في خيمته وأخذ نصيباً من الراحة بعد الغداء ومثول جماعة من الأمراء إلى خدمته وأخذ رأيهم فيما يصنعون ثم صلى الظهر وجلس يطلق أثمان الخيول المجروحة وغيرها إلى العشاء الآخرة من مائة دينار إلى مائة وخمسين ديناراً وزائد وناقص فما رأيت أسح صدراً منه ولا أبسط وجهاً في العطاء واتفق الرأي على رحيل الثقل في عصر ذلك اليوم إلى مجدل يافا. المنزل الثالث: وأقام هو جريدة بالمنزل إلى الصباح رابع الشهر وركب وسار في رأس النهر الجاري إلى قيسارية ونزل هناك وبلغ رطل البقسماط أربع دراهم وربع الشعير درهمين ونصفاً والخبز لم يوجد أصلاً ونزل في خيمة وأكل خبزاً وصلى الظهر وركب إلى طريق العدو لتجديد إرشاده في ضرب المصاف ولم يعد إلى أن دخل وقت العصر فجلس ساعة وأخذ جزءاً من الراحة ثم عاد وركب وأمر الناس بالرحيل ورمى خيمته ورمى الناس خيامهم في أواخر النهار. المنزل الرابع: وكان الرحيل إلى رابية متأخراً عن تلك الرابية وفي ذلك المنزل أتي باثنين من الإفرنج قد تخطفهم اليزك فأمر بضرب رقابهما فقتلا وتكاثر الناس عليهما بالسيوف تشفياً ثم بات هناك وأصبح مقيماً بالمنزل لأنه لم يصح عن العدو رحيل وأنفذ إلى الثقل حتى يعود إليه في تلك الليلة مما طرأ على الناس من الضيق في المآكل والقضم وركب في وقت عادته إلى جهة العدو وأشرف على قيسارية وعاد إلى الثقل قريب الظهر وقد وصل الخبر أن العدو لم يرحل بعد من الملاحة وأحضر عنده اثنان أيضاً قد أخذ من أطراف العدو فقتلا شر قتلة وكان في حدة الضيقة لما جرى على أسرى عكا ثم أخذ جزء من الراحة وجلس بعد صلاة الظهر وحضرت عنده وقد أحضر بين يديه من العدو فارس مذكور هيئته تخبر عن أنه متقدم فيهم فأحضر ترجماناً وبحث عن أحوال القوم وسأله كيف يسوى الطعام عندكم فقال: أول يوم رحلنا من عكا كان الإنسان يشبع بستة قراطيس فلم يزل السعر يغلو حتى صار يشبع بثمانية قراطيس. وسأل عن سبب تأخرهم في المنازل. فقال: لانتظار وصول المراكب بالرجال والميرة. فسأل عن القتلى والجرحى في يوم رحيلهم فقال كثير. فسأل عن الخيل التي هلكت في ذلك اليوم فقال مقدار أربعمائة فرس فأمر بضرب عنقه ونهى عن التمثيل به فسأل الترجمان عما قال السلطان فأخبره بما قال فتغير تغيراً عظيماً وقال أنا أخلص لكم أسيراً من عكا. فقال رحمه الله: بل أميراً. فقال: لا أقدر على خلاص أمير فشفع الطمع فيه وحسن خلقه فإني ما رأيت أتم خلقاً منه مع ترف في الأطراف ورفاهية فأمر أن يترك الآن ويؤخر أمره فصفده وعاتبه على ما بدا منهم من الغدر وقتل الأسرى فاعترف بأنه قبيح ولم يجر إلا برضا الملك وحده وركب السلطان بعد صلاة العصر على عادته وبعد أن نزل أمر بقتل الفارس المذكور وأتي بعده باثنين فأمر بقتلهما وبات في ذلك المنزل المذكور وذكر له في السحر أن العدو قد تحرك نحو قيسارية وقارب أوائلهم البلد فرأى أن يتأخر من طريق العدو منزلاً آخر. المنزل الخامس: فرحل ورحل الناس إلى قريب التل الذي كنا عليه فنزل الناس وضربت الخيام ومضى هو يرتاد الأراضي الكائنة في طريق العدو لينظر أيها أصلح للمصاف ونزل قريب الظهر واستدعى أخاه الملك العادل وعلم الدين سليمان وأخذ رأيهما فيما يصنع وأخذ جزءاً من الراحة وأذّن الظهر فصلى وركب ليشرف وليكشف عن العدو ويتنسم أخباره وأتاه اثنان من الإفرنج قد نهبا فأمر بقتلهما ثم أتي باثنين آخرين فقتلا أيضاً وجيء في أواخر النهار باثنين فقتلا أيضاً وعاد من الركوب وصلى صلاة المغرب وجلس على عادته واستدعى أخاه وصرف الناس وخلا به إلى هزيع من الليل ثم بات وأصبح ونادى الجاويش لعرض الحلقة لا غير وركب إلى جهة العدو ووقف على تلول مشرفة على قيسارية وكان العدو قد وصل إليها نهار الجمعة سادس شعبان ولم يزل يعرض هناك إلى أن علا النهار ثم نزل وأكل الطعام وركب إلى أخيه وعاد بعد صلاة الظهر وأخذ جزءاً من الراحة وجلس وأتي بأربعة من الإفرنج وامرأة إفرنجية بينهم أسيرة وهي بنت الفارس المذكور ومعها أسيرة مسلمة قد أخذتها فأطلقت المسلمة ودفع الباقون إلى الزردخانة وهؤلاء أتي بهم من بيروت أخذوا في مراكب من جملة عدة كثيرة فقتلوا. كل ذلك في نهار السبت سابع الشهر وهو في المنزلة ينتظر رحيل العدو مجمعاً على لقائه إذا رحل. المنزل السادس: ولما كان صبيحة الثامن ركب السلطان على عادته ثم نزل ووصله من أخيه أن العدو على حركة وكانت الأطلاب قد باتت حول قيسارية في مواضعها فأمر بمد الطعام وأطعم الناس فوصل ثان وأخبر أن القوم قد ساروا فأمر بالكؤوس فدقت وركب وركب الناس وسار وسرت في خدمته حتى أتى عسكر العدو وصف الأطلاب حوله وأمرهم بقتالهم وأخرج الجاليش فكان النشاب بينهم كالمطر وكان عسكر العدو قد رتب فكانت الرجالة حوله كالسور وعليهم اللبود الثخينة والزرديات السابغة المحكمة بحيث يقع فيهم النشاب ولا يتأخرون وهم يرموننا بالزنبورك فيجرح خيل المسلمين وخيالتهم ولقد شاهدتهم ويتغرز في ظهر الواحد منهم الواحد والعشرة وهو يسر على هيئته من غير انزعاج. وثم قسم آخر من الرجالة مستريح يمشون على جانب البحر ولا قتال عليهم فإذا تعبت هذه المقاتلة أو أثخنتهم الجراح قام مقامهم المستريح واستراح القسم المقاتل. هذا والخيالة في وسطهم لا يخرجون عن الرجالة إلا في وقت الحملة لا غير وقد انقسموا أيضاً ثلاثة أقسام. القسم الأول الملك العتيق جفري وجماعة الساحلية معه في المقدمة والأنكتار والفرنسيس معه في الوسط. وأولاده الست أصحاب طبرية وطائفة أخرى في الساقة وفي وسط القوم برج على عجلة على ما وصفته من قبل أيضاً كالمنارة العظيمة هذا ترتيب القوم على ما شاهدته وأخبر به من خرج منهم من الأسرى والمستأمنين وساروا على هذا المثال وسوق الحرب قائمة والمسلمون يرمونهم بالنشاب من جوانبهم ويحركون عزائمهم حتى يخرجوا وهم يحفظون نفوسهم حفظاً شديداً ويقطعون الطريق على هذا الوضع ويسيرون سيراً رقيقاً ومراكبهم تسير في مقابلتهم في البحر إلى أن أتوا المنزل وكانت منازلهم قريبة لأجل الرجالة فإن المستريحين منهم كانوا يحملون أثقالهم وخيمهم لقلة الظهر عندهم فانظر إلى صبر هؤلاء القوم على الأعمال الشاقة عن غير دين ولا نفع وكانت منزلتهم قاطع نهر قيسارية يسر الله فتحها. المنزل السابع: ولما كانت صبيحة التاسع وصل من أخبر أن العدو قد ركب سائراً فركب السلطان أول الصبح وطلب الأطلاب وأخرج من كل جانب جاليشاً فسار يطلب القوم فأتاهم وهم سائرون على عادتهم ثلاثة أقسام وطاف الجاليش حولهم من كل جانب ورموهم بالنشاب وهم سائرون ثلاثة أقسام على المثال الذي حكيته وكلما ضعف قسم عاونه الذي يليه وهو يحفظ بعضهم بعضاً والمسلمون محدقون بهم من ثلاثة جوانب والقتال بينهم شديد والسلطان يقرب الأطلاب ورأيته وهو يسير بنفسه بين الجاليش ونشاب القوم يجاوزه وليس معه إلا صبيان بجنبيه لا غير وهو يسير من طلب إلى طلب يحثهم على التقدم ويأمرهم بمضايقة القوم ومقاتلتهم والكؤوس تخفق والبوقات تنعر والصياح بالتهليل والتكبير يعلو. هذا والقوم على أتم ثبات على ترتيبهم لا يتغيرون ولا ينزعجون وجرت حالات كثيرة ورجالتهم تجرح المسلمين وخيولهم بالزنبورك والنشاب ولم نزل حواليهم نقاتلهم ونحمل عليهم وهم يكرون بين أيدينا ويفرون إلى أن أتوا نهراً يقال له نهر القصب ونزلوا عليه وقد قامت الظهيرة وضربوا خيامهم وتراجع الناس عنهم فإنهم كانوا إذا نزلوا أيس الناس منهم ورجعوا عن قتالهم وفي ذلك اليوم قتل من فرسان الإسلام شجاع اسمه إياز الطويل بعض مماليك السلطان وكان قد فتك فيهم وقتل خلقاً من خيالتهم وشجاعتهم وكانت قد فاضت شجاعته بين العسكرين بحيث أنه جرت له وقعات كثيرة صدقت أخبار الأوائل وسار بحيث إذا عرفه الإفرنج في موضع يخافونه تقنطرت به فرسه واستشهد وحزن المسلمون عليه حزناُ عظيماً ودفن على تل مشرف على البركة ونزل السلطان بالثقل على البركة وهي موضع يجتمع فيه مياه كثيرة وأقام في تلك المنزلة إلى بعد صلاة العصر وأطعم الناس خبزاً واستراحوا ساعة ثم رحل وأتى نهر القصب ونزل عليه أيضاً فشرب منه قليل من أعلاه والعدو يشرب من أسفله ليس بيننا إلا مسافة يسيرة وبلغ ربع الشعير أربعة دراهم والخبز موجود كثيراً وسعره الرطل بنصف درهم وأقام ينتظر رحيل الإفرنج حتى يرحل في مقابلتهم فباتوا وبتنا أيضاً. ذكر وقعة جرت وذلك أن جماعة من العسكر الإسلامي كانوا مشرفين على العدو فصادفوا جماعة منهم يشرفون على العسكر الإسلامي وظفروا بهم وهجموا عليهم وجرى بينهم قتال عظيم فقتل من العدو جماعة وأحس بهم عسكر العدو فثار إليهم منهم جماعة واتصل بالحرب وقتل أيضاً من المسلمين نفران وأسر من العدو ثلاثة ومثلوا بخدمة السلطان فسألهم عن الأحوال فأخبروه أن الملك الأنكتار قد حضر عنده بعكا اثنان بدويان وأنهما أخبراه بقلة العسكر الإسلامي وذلك الذي أطمعه حتى خرج وأنه لما كان بالأمس يعني يوم الاثنين رأى من المسلمين قتالاً عظيماً واستكثر الأطلاب وأنه جرح زهاء ألف نفر وقتل جماعة وأن ذلك هو الذي أوجب إقامته اليوم حتى يستريح عسكره وأنا لما رأى ما أصابهم من القتل العظيم وكثرة المسلمين أحضر البدويين عنده وأوقفهما وضرب أعناقهما. وأقمنا في ذلك اليوم في تلك المنزلة لإقامة العدو بها وهو الثلاثاء العاشر من شعبان. المنزل الثامن: ولما كان ظهر اليوم المذكور رأى السلطان الرحيل والتقدم إلى قدام العدو فدق الكؤوس ورحل الناس ودخل في شعرا أرسوف حتى توسطها إلى تل عند قرية تسمى دير الراهب فنزل هناك ودهم الناس الليل فتقطعوا في الشعر وأصبح مقيماً ينتظر بقية العساكر إلى صباح الأربعاء الحادي عشر وتلاحقت العساكر وركب يرتاد موضعاً يصلح للقتال ولقاء العدو وأقام ذلك اليوم أجمع هناك. ومن أخبار العدو في تلك المنزلة أنه أقام على نهر القصب ذلك اليوم أيضاً وأنه لحقته نجدة من عكا في ثمان بطس كبار واليزك الإسلامي حوله يواصلون الأخبار المستجدة بهم وجرى بين اليزك وبين حشاشة العدو قتال وجرح من الطائفتين. ذكر مراسلة جرت في ذلك اليوم وذلك أن العدو طلب من اليزك من يتحدث معه وكان مقدم اليزك علم الدين سليمان فإنها كانت نوبته فلما مضى إليهم من سمع كلامهم كان كلامهم طلب الملك العادل حتى يتحدثوا معه فاستأذن ومضى وبات تلك الليلة في اليزك وتحدثوا معه وكان حاصل حديثهم أنا قد طال بيننا القتال وقد قتل من الجانبين الرجال الأبطال وأنا نحن جئنا في نصرة إفرنج الساحل فاصطلحوا أنتم وهم وكل منا يرجع إلى مكانه وكتب السلطان إلى أخيه في صبيحة يوم الخميس الثاني والعشرين رقعة يقول له فيها: إن قدرت أن تطاول الإفرنج فلعلهم يقيمون اليوم حتى يلحقنا التركمان فإنهم قد قربوا منا. ذكر اجتماع الملك العادل والأنكتار ولما علم الأنكتار وصول الملك العادل إلى اليزك طلب الاجتماع به فأجابه إلى ذلك فاجتمعا بفرقة من أصحابهما وكان يترجم بينهما ابن الهنغري وهو من إفرنج الساحل من كبارهم ورأيته يوم الصلح وهو ساب حسن إلا أنه محلوق اللحية على ما هو شعارهم. وكان الحديث بينهما أن الأنكتار شرع في ذكر الصلح وأن الملك العادل قال له أنتم تطلبون الصلح ولا تذكرون مطلوبكم فيه حتى أتوسط أنا الحال مع السلطان. فقال له الأنكتار: القاعدة أن تعود البلاد كلها إلينا وتنصرفوا إلى بلادكم. فأخشن له الجواب وجرت منافرة اقتضت أنهم رحلوا بعد انفصالهم ولما أحس السلطان برحيلهم أمر الثقل الرحيل ووقف هو وعبى الناس تعبية القتال وسار الثقل الصغير أيضاً حتى قارب الثقل الكبير ثم ورد أمر السلطان بعودهم إليه فعادوا ووصلوا وقد دخل الليل وتخبط الناس تلك الليلة تخبطاً عظيماً واستدعى أخاه ليعرفه ما جرى بينه وبين الملك وخلا به لذلك وذلك في ليلة الجمعة ليلة الثالث عشر وأما العدو فإنه سار ونزل على موضع يسمى البركة أيضاً يشرف على البحر وأصبح السلطان في يوم الجمعة متطلعاً إلى أخبار العدو فأحضر عنده اثنان من الإفرنج قد تخطفهما اليزك فأمر بضرب أعناقهما ووصل من أخبر أن العدو لم يرحل اليوم من منزلته تلك فنزل السلطان واجتمع بأخيه يتحدثان في هذا الأمر وما يصنع مع العدو وبات تلك الليلة في تلك المنزلة. ولما كان يوم السبت الرابع عشر بلغ السلطان أن العدو حرك الرحيل نحو أرسوف فركب ورتب الأطلاب للقتال وعزم على مضايقتهم في ذلك اليوم ومصادمتهم وأخرج الجاليش من كل طلب وسار العدو حتى قارب شعرا أرسوف وبساتينها فأطلق عليهم الجاليش النشاب ولزمتهم الأطلاب من كل جانب والسلطان يقرب بعضها ويوقف بعضها ليكون ردأً ويضايق العدو مضايقة عظيمة والتحم القتال واضطرمت ناره من الجاليش وقتل منهم وجرح فاشتدوا في السير عساهم يبلغون المنزلة فينزلوا واشتد بهم الأمر وضاق بهم الخناق والسلطان يطوف من الميمنة إلى الميسرة يحث الناس على الجهاد ولقيته مراراً ليس معه إلا صبيان بجنبيه لا غير ولقيت أخاه وهو على مثل هذه الحال والنشاب يتجاوزهما ولم يزل الأمر يشتد بالطمع للعدو وطمع المسلمون فيهم طمعاً عظيماً حتى وصل أوائل راجلهم إلى بساتين أرسوف ثم اجتمعت الخيالة وتواصلوا على الحملة خشية على القوم ورأوا أنه لا ينجيهم إلا الحملة. ولقد رأيتهم وقد أجمعوا في وسط الرجالة وأخذوا رماحهم وصاحوا صيحة الرجل الواحد وفرج لهم رجالتهم وحملوا حملة واحدة من الجوانب كلها فحملت طائفة على الميمنة وطائفة على الميسرة وطائفة على القلب فاندفع الناس بين أيديهم واتفق أني كنت في القلب ففر القلب فراراً عظيماً فنويت التحيز إلى الميسرة وكانت أقرب إليّ ووصلتها وقد انكسرت كسرة عظيمة وفرت أشدّ فرار من الكل فنويت التحيز إلى طلب السلطان وكان ردأ الأطلاب كلها كما جرت العادة ولم يبق للسلطان فيه إلاّ سبعة عشر مقاتلا لا غير وأخذ الباقون إلى القتال لكن الأعلام كلها باقية ثابتة والكؤوس تدق لا تفتر وأما السلطان لما رأى ما نزل بالمسلمين من هذه النازلة سار حتى أتى إلى طلبه فوجد فيه هذا النفر القليل فوقف فيه والناس ينفرون من الجوانب وهو يأمر أصحاب الكؤوس بالدق بحيث لا يفترون وكلما رأى فارّاً يأمر من يحضره عنده وفي الجملة ما قصر الناس بفرارهم فإن العدو حمل حملة ففروا ثم وقف خوفاً من الكمين فوقفوا وقاتلوا ثم حمل حملة ثانية ففروا وهم يقاتلون في فرارهم ثم وقف فوقفوا ثم حمل حملة ثالثة حتى بلغ إلى رؤوس روابٍ هناك وأعالي تلول ففرّوا إلى أن وقف العدو ووقفوا وكان كل من رأى طلب السلطان واقفاً والكؤوس تدق يستحي أن يجاوزه ويخاف غائلة ذلك فيعود إلى الطلب فاجتمع في القلب خلق عظيم ووقف العدو قبالتهم على رؤوس التلول والروابي والسلطان واقف في طلبه والناس يجتمعون عليه حتى أتت العساكر بأسرها وخاف العدو أن يكون في الشعرا كمين فتراجعوا يطلبون المنزلة وعاد السلطان إلى تل في أوائل الشعرا ونزل عليه في خيمته. ولقد كنت في خدمته أسليه وهو لا يقبل السلو وظل عليه بمنديل وسألناه أن يطعم شيئا فأحضر له شيء لطيف فتناول شيئاً يسيراً وبعث الناس للسقي فإن المكان كان بعيدا وجلس ينتظر الناس من العود من السقي والجرحى يحضرون بين يديه وهو يتقدم بمداواتهم وحملهم وقتل في ذلك اليوم رجالة كثيرة وجرح جماعة من الطائفتين. وكان ممن ثبت الملك العادل والطواشي قايماز النجمي والملك الأفضل ولده وصدم في ذلك اليوم وانفتح دمّل كان في وجهه وسال منه دم كثير على وجهه وهو صابر محتسب في ذلك كله وثبت أيضاً طلب الموصل ومقدمة علاء الدين وشكره السلطان على ذلك وتفقد الناس بعضهم بعضاً فوجدوا أن قد استشهد جماعة من العسكر عرف منهم شخصان أمير كبير مملوك وكان شجاعاً معروفاً وقايماز العادلي وكان مذكوراً وليفوش وكان شجاعاً وجرح خلق كثير وخيول كثيرة وقتل من العدو جماعة وأسر واحد وأحضر فأمر بضرب عنقه وأخذت منهم خيولُ أربعة وكان قد تقدم رحمه الله إلى الثقل أن يسير إلى العوجاء وذكر أن المنزل يكون على العوجاء فاستأذنته وقدمت إلى المنزل وجلس هو ينتظر اجتماع العساكر وما يرد من أخبار العدو وكان العدو قد نزل على أرسوف قبيلها. المنزل التاسع: وسرت بعد صلاة الظهر حتى أتيت الثقل وقد نزل قاطع النهر المعروف بالعوجاء في منزلة خضراء طيبة على جانب النهر ووصل السلطان إلى المنزلة أواخر النهار وازدحم الناس على القنطرة فنزل على تل مشرف على النهر ولم يعد إلى الخيمة وأمر الجاويش أن ينادي في العسكر بالعبور إليه وكان في قلبه من الوقعة أمر لا يعلمه إلاّ الله تعالى والناس بين جريح الجسد وجريح القلب وأقام السلطان إلى سحر الخامس عشر ودقّ الكؤوس وركب وركب الناس وسار راجعاً إلى جهة العدو حتى وصل إلى قريب أرسوف وصفّ الأطلاب للقتال رجاء خروج العدو ومسيره حتى يصاف فلم يرحل العدو في ذلك اليوم لما نالهم من التعب والجراح وأقام قبالتهم إلى آخر النهار وعاد إلى منزلته التي بات فيها. ولما كانت صبيحة السادس عشر دقّ الكؤوس وركب وركب الناس وسار نحوهم ووصل خبر العدو أنه قد رحل طلباً جهة يافا فقاربهم مقاربة عظيمة ورتب الأطلاب ترتيب القتال وأخرج الجاليش وأحدق العسكر الإسلامي بالقوم وألقوا عليهم من النشاب ما كان يسد الأفق وقاتلت قلوبهم قتال الحنق وقصد رحمه الله تحريك عزائمهم على الحملة حتى إذا حملوا ألقى الناس عليهم وقصدوهم ويعطي الله النصر لمن يشاء فلم يحملوا وحفظوا نفوسهم وساروا مصطفين على عادتهم حتى أتوا نهر العوجاء وهو النهر الذي منزلتنا أعلاه فنزل في أسفله وعبر بعضهم إلى غربي النهر وأقام الباقون من الجانب الشرقي فلما علم الناس بنزولهم تراجع الناس عنهم وعاد السلطان إلى الثقل ونزل في خيمته وأطعم الطعام وأتى بأربعة من الإفرنج قد أخذتهم العرب ومعهم امرأة فرفعوا إلى الزردخانات وأقام بقية ذلك اليوم يكتب الكتب إلى الأطراف باستحضار بقية العساكر وحضر من أخبر أنه قتل من العدو يوم أرسوف خيول كثيرة وأنه تتبعها العرب وعدّوها فزادت على مائة وأمر السلطان أن رحلت الجمال وتقدمت إلى الرملة وبات هو بتلك المنزلة. المنزل العاشر: ولما كان سابع عشر صلّى الصبح ورحل ورحل معه الثقل الصغير وسار يريد الرملة وأتى باثنين من الإفرنج فضرب أعناقهم ووصل من اليزك من أخبر أن العدو رحل من يافا وسار السلطان إلى أن أتى الرملة وأتى باثنين من الإفرنج أيضاً فسألهم عن أحوالهم فذكروا أنهم ربما أقاموا بيافا أيّاماً وفي أنفسهم عمارتها وشحنها بالرجال والعدد فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وأنها هل تخرب أو تبقى واتفق الرأي على أن يتخلف الملك العادل ومعه طائفة من العسكر مقارب العدو ليعرف أحوالهم واتصالها وأن يسير هو ويخرب عسقلان خشية أن يستولي عليها الإفرنج وهي عامرة فيقتلوا من بها من المسلمين ويأخذوا بها القدس الشريف ويقطعوا بها طريق مصر وخشي السلطان من ذلك وعلم عجز المسلمين عن حفظها لقرب عهدهم من عكا وما جرى على من كان مقيماً بها ويخيفوا الناس عن الدخول إلى عسقلان فادخرت القوة في عسكر الإسلام لحفظ القدس المحروس فتعين لذلك خراب عسقلان فسار الثقل والجمال من أوّل الليل وتقدم إلى ولده الملك الأفضل أن المنزل الحادي عشر: وهو على عسقلان. ولما كان يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر وصل السلطان إلى يبنا فنزل بها ضحى وأخذ الناس راحة ثم رحل وسار حتى أتى أرض عسقلان وقد ضربت خيمته بعيدا منها فبات هناك مهموماً بسبب الخراب وما نام إلاّ قليلا. ولقد دعاني في خدمت سحرا وكنت فارقت خدمته بعد مضي نصف الليل فحضرت وبدأ الحديث في معنى خرابها وأحضر ولده الملك الفضل وشاوره في ذلك وطال الحديث في المعنى. ولقد قال لي: والله لأن أفقد أولادي بأسرهم أحب إليّ من أن أهدم منها حجراً واحداً ولكن إذا قضى الله ذلك لحفظ مصلحة المسلمين كان ثم استخار الله تعالى فأوقع الله في نفسه أن المصلحة في خرابها لعجز المسلمين عن حفظها فاستحضر الوالي قيصر بها وهو من كبار مماليكه وذوي الآراء منهم فأمره بجمع العمال فيها ولقد رأيته وقد اجتاز بالسوق والوطاق بنفسه مستقر الناس للخراب وقسم السور على الناس وجعل لكل أمير وطائفة من الناس العسكر بدونه معلومة وبرجا معلوما يخربونه ودخل الناس البلد ووقع الضجيج والبكاء وكان بلداً نضراً خفيفاً على القلب محكم الأسوار عظيم البناء مرغوبا في سكناه فلحق الناس عليه حزن عظيم وعظم عويل أهله على مفارقة أوطانهم وشرعوا في بيع ما لا يمكن حمله فبيع ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد واختبط البلد وخرج أهله إلى العسكر بذراريهم ونسائهم خشية أن يهجم الإفرنج وبذلوا في الكراء أضعاف ما يساوي قوم إلى مصر وقوم إلى الشام وقوم يمشون إذا لم يقع لهم كراء وجرت أمور عظيمة وفتنة هائلة لعلها لم تختص بالذين ظلموا وكان هو بنفسه وولده الملك الأفضل يستعملان الناس في الخراب والحث عليه خشية أن يسمع العدو فيحضر ولا يمكن خرابها وبات الناس في الخيام على أتم حال من التعب والنصب وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل أن الإفرنج تحدثوا معه في الصلح وأنه خرج إليه ابن الهنغري وتحدث معه وأنه طلب جميع البلاد الساحلية فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما رأى في أنفس الناس من الضجر والسآمة من القتال والمصابرة وكثرة ما علاهم من الديون وكتب إليه يسمح في الحديث في ذلك وفوّض أمر ذلك إلى رأيه وأصبح في العشرين على الإصرار على الخراب واستعمال الناس فيه وحثهم عليه وأباحهم الهري الذي كان ذخيرة في البلد للعجز عن نقله وضيق الوقت والخوف من هجوم الإفرنج وأمر بحرق البلد فأضرمت النار في بيوته ودوره ورفض أهله بواقي الأقمشة للعجز عن نقلها والأخبار تتواتر من جانب العدو بعمارة يافا وكتب الملك العادل يخبر أن القوم لم يعلموا بخراب البلد وأن سوّف القوم وطوّل الحديث لعلّنا نتمكن من الخراب وأمر بحشو أبراج البلد بالأحطاب وأن تحرق وأصبح الحادي والعشرون فركب يحث الناس ودام يستعملهم على التخريب ويطوف عليهم بنفسه حتى التاث مزاجه التياثاً قويّاً امتنع بسببه من الركوب والغذاء يومين وأخبار العدو تتواصل إليه في كل وقت ويجري بينهم وبين اليزك والعسكر وقعات وهو يواظب على الحث على الخراب ونقل الثقل إلى قريب البلد ليعاونوا الغلمان والحمالين وغيرهم من ذلك فخرب من السور معظمه وكان عظيم البناء بحيث أنه كان عرضه في مواضع تسعة أذرع وفي مواضع عشرة أذرع وذكر بعض الحجارين للسلطان وأنا حاضر أن عرض السور الذي ينقبون فيه مقدار رمح ولم يزل التخريب و الحريق يعمل في البلد وأسواره إلى سلخ شعبان وعند ذلك وصل من جرديك كتاب يذكر فيه أن القوم يتفسحون وصاروا يخرجون من يافا يغيرون على البلاد القريبة منها فتحرك السلطان لعله يبلغ منهم غرضاً في غرّتهم فعزم على الرحيل على أن يخلف في عسقلان حجارين ومعهم خيل تحميهم ويستنهضونهم في الخراب ثم رأى أن يتأخر بحيث يحرق البرج المعروف بالأسبتار وكان برجاً عظيماً مشرفاً على البحر كالقلعة المنيعة ولقد دخلته وطفته فرأيت بناءه أحكم بناه يقرب من أن لا تعمل فيه المعاول وإنما أراد أن يحرقه حتى يبقى بالحريق قابلا للخراب ويعمل الهدم فيه. وأصبح مستهل رمضان فأمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه. ولقد رأيته يحمل الخشب ويحشونه في البرج حتى امتلأ ثم أطلقت فيه النار فاشتعل الخشب وبقيت النار تشتعل فيه يومين بلياليهما ولم يركب السلطان في ذلك اليوم تسكينا لمزاجه وعرض لي أيضاً تشوش مزاج اقتضى انقطاعي عنه في ذلك اليوم ولقد تردد إلى من سأل عن مزاجي من عنده ثلاث مرات مع اشتغال قلبه بذلك المهم. فالله تعالى يرحمه لقد ماتت محاسن الأخلاق بموته.
|