الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن مهلك السلطان أبي حفص وعهده بالأمر من بعده. لم يزل السلطان أبو حفص على أكمل حالات الظهور والدعة إلى أن استوفى مدته وأصابه وجع أول ذي الحجة من سنة أربع وتسعين وستمائة ثم اشتد به الوجع وأهمه أمر المسلمين وما قلده من عدتهم فعهد لابنه عبد الله بالخلافة ثاني أيام التشريق ونكره الموحدون لتخلفه عن المراتب لصغره وأنه لم يحتلم وتحدثوا في ذلك وأفضى الخبر إلى السلطان فأسخطه وعدل عنهم إلى الشورى مع الولي أبي محمد المرجاني وكان رأيه فيه جميلا وظنه به صالحا وكان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وبنوه بمحبسهم فرت إحدى جواريه وقد اشتملت على حمل منه إلى رباط هذا الولي فوضعته في بيته فسماه الشيخ محمدا وعق عليه وأطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة فلقب بأبي عصيدة إلى آخر الدهر ثم صار بعد الاختفاء ودواعيه إلى قصورهم ونشأ في ظل الخلفاء من قومه حيث شب وبقيت له مع الولي أبي محمد ذمة يثابر كل منهما على الوفاء بها فلما فاوضه السلطان أبو حفص في شأن العهد وقص نكير الموحدين لولده أشار عليه الشيخ بصرف العهد إلى محمد بن الواثق فتقبل إشارته وعلم ترشيحه وأنفذ بذلك عهده بمحضر الملأ ومشيخة الموحدين وهلك آخر ذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة وإلى الله المصير..الخبر عن دولة السلطان أبي عصيدة وما كان على أثرها من الأحوال. لما هلك السلطان أبو حفص اجتمع الملأ من الموحدين والأولياء والجند والكافة إلى القصبة فبايعوا بيعة عامة لولي عهده السلطان أبي عبد الله محمد ويلقب كما ذكرناه بأبي عصيدة ابن السلطان الواثق في الرابع والعشرين لذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة فانشرحت ببيعته الصدور ورضيته الكافة وتلقب المستنصر بالله وافتتح أمره بقتل عبد الله ابن السلطان أبي حفص لمكان ترشيحه وقلد وزارته محمد ابن يرزيكن من مشيخة الموحدين وأبقى محمد الشخشي على خطة الحجابة وصرف التدبير والعساكر ورياسة الموحدين إلى أبي يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني قتيل السلطان المستنصر عند تعرض ابنه للبيعة واستنامة الخلافة فقام بما دفع إليه من ذلك وضايقه فيه عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين قبله حتى إذا نكب وهلك استبد هو على الدولة واستقل الشخشي بحجابته وكان محمد بن إبراهيم بن الدباغ رديفا له فيها.وكان من خبر ابن الدباغ هذا أن إبراهيم أباه وفد على تونس في جالية أشبيلية سنة ست وأربعين وستمائة فولد هو بتونس ونشأ بها وأفاد صناعة الديوان وحسباته من المبرزين كان فيه أبي الحسن وأبي الحكم ابني مجاهد وأصهر إليهما في ابنة أبي الحسن فأنكحاه ورشحاه للأمانة على ديوان الأعمال ولما استقل أبو عبد الله الفازازي بالرياسة استكتبه وكان طياشا مستعصيا على الخليفة فكان كاتبه محمد بن الدباغ يروضه لأغراض الخليفة إذا دسها إليه الحاجب ابن الشيخ فيقع ذلك من الخليفة أحسن الموقع ولما ولي السلطان أبو عصيدة وكانت له عنوة سابقة رعاها وكان حاجبه الشخشي بهمة غفلا عن أدوات الكتاب فاستكتب السلطان ابن الدباغ ثم رقاه إلى كتابة علامته سنة خمس وتسعين وستمائة وكان يتصرف فيها فأصبح رديفا للشخشي في حجابته وجرت أمور الدولة على ذلك إلى أن هلك الشخشي سنة تسع وتسعين وستمائة فقلده السلطان حجابته فاستقل بها على ما قدمناه من أن التدبير والحرب مصروف إلى مشيخة الموحدين..الخبر عن نكبة عبد الحق بن سليمان وخبر بنيه من بعده. كان أبو محمد عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين لعهد السلطان أبي حفص وأصله من تينملل الموطنين بتبرسق مذ أول الدولة كانت له ولسلفه الرياسة عليهم وصارت إليه رياسة الموحدين كافة بالحضرة أيام هذا السلطان وكان له خالصة وشيعة وكان حريصا على ولاية ابنه عبد الله للعهد وكان يدافع نكير الموحدين في ذلك فأسر هاله السلطان أبو عصيدة ولما استوثق له الأمر وقتل عبد الله بمحبسه تقبض على أبي محمد بن سليمان واعتقله في صفر سنة خمس وتسعين وستمائة ولم يزل معتقلا إلى أن قتل بمحبسه على رأس المائة وفر عند نكبته ابناه محمد وعبد الله فأما عبد الله فلحق بالأمير أبي زكريا وصار في جملته إلى أن دخل تونس مع ابنه السلطان أبي البقاء خالد.وأما محمد فأبعد المفر ولحق بالمغرب الأقصى ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين بمعسكره من حصار تلمسان فاستبلغ في تكريمه وأقام عنده مدة ثم عاود وطنه ونزل عن طريقه إلى النسك ولبس الصوف وصحب الصالحين وقضى فريضة الحج وامتد عمره وحسنت فيه ظنون الكافة واعتقدوا فيه وفي دعائه وكثرت غاشيته لالتماس البركة منه وأوجب الخلفاء أزاء ذلك تجلة أخرى وأوفدوه على ملوك زناتة مرة بعد مرة في مذاهب الود وقصود الخير وحضر في بعض الجهاد بجبل الفتح عندما نازلته عساكر السلطان أبي الحسن ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك في الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة والله تعالى أعلم..الخبر عن مراسلة يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين ومهاداته. كان السلطان أبو عصيدة لما استفحل أمره واستوسق ملكه حدث نفسه بغزو الناحية الغربية وارتجاع ثغورها من يد الأمير أبي زكريا وكان الأمير أبو زكريا قد انتقض عليه أهل الجزائر بعد مهلك عاملها عليها من الموحدين من بني الكمازير انبرى بها بعده محمد بن علان من مشيختها واستفحل أمر عثمان بن يغمراسن وبني عبد الواد من ورائه وتغلبوا على توجين ومغراوة وبلكين وكان شيعة لصاحب الحضرة بما كان متمسكا بدعوتهم ومتقبلا مذهب أبيه في بيعتهم فقويت عزائم السلطان أبي عصيدة لذلك ونهض من الحضرة سنة خمس وتسعين وستمائة وتجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسنطينة وأجفلت أمامه الرعايا والقبائل وانتهى إلى ميلة وفيها كان منقلبة إلى حضرته في رمضان من سنته.ولما ضايق عمل بجاية بغزوه أعمل الأمير أبو زكريا نظره في تسكين الناحية الغربية ليتفرغ عنها إلى مدافعة السلطان صاحب الحضرة فوصل يده بعثمان بن يغمراسن وأكد معه قديم الصهر بحادث الود والمواصلة وفي خلال ذلك زحف يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين إلى تلمسان وألقى عليها بكلكله واستجاش عثمان بن يغمراسن بالأمير أبي زكريا فأمده بعسكر من الموحدين لقيهم عسكر من بني مرين بناحية تدلس فهزموهم وأثخنوا فيهم قتلا ورجع فلهم إلى بجاية وسرح يوسف بن يعقوب عساكر بني مرين إلى بجاية وعقد عليها لأخيه أبي يحيى بعد أن كان عثمان بن سباع وفد عليها نازعا عن صاحب بجاية إليه ومرغبا له في ملكها فأوسع له في الحباء والكرامة ما شاء وبعث معه هذا العسكر فانتهوا إلى بجاية وضايقوها ثم جاوزوها إلى تاكرارت وبلاد سدويكش وعاثوا في تلك الجهات ودوخوها وانقلبوا راجعين إلى السلطان يوسف بن يعقوب بمعسكره من تلمسان.وكان السلطان أبي عصيدة صاحب الحضرة لما علم بإمداد الأمير أبي زكريا لعثمان بن يغمراسن بعث إلى يوسف بن يعقوب عدوهم وحرضه على بجاية ونواحيها وسفر له في ذلك رئيس الموحدين أبا عبد الله بن الكجار أولى سفارته ثم سفر ثانية سنة ثلاث وسبعمائة بهدية ضخمة فأغرب فيها بسرج وسيف ومهماز من الذهب من صنعة الحلي الفاخر من حصى الياقوت والجوهر ورافقه في هذه السفارة الثانية وزير الدولة أبو عبد الله بن يرزيكن ورجعا بهدية ضخمة من يوسف بن يعقوب كان من جملتها ثلثمائة من البغال واتصلت المخاطبات والسفارات والهدايا والملاطفات وكان يوسف بن يعقوب يكاتب السلطان في تلك الشؤون تعريضا ويكاتب رئيس الموحدين أبا يحيى اللحياني وتردد عساكر بني مرين إلى نواحي بجاية إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى.
|