الشرطة
ويسمى صاحبها لهذا العهد بإفريقية الحاكم وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة وفي دولة الترك الوالي. وهي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان. وكان أصل وضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدائها أولاً ثم الحدود بعد استيفائها. فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك. فكان الذي يقوم بهذا الاستبداء وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة وربما جعلوا إليه النظر في الحدود والدماء بإطلاق وأفردوها من نظر القاضي. ونزهوا هذه المرتبة وقلدوها كبار القواد وعظماء الخاصة من مواليهم. ولم تكن عامة التنفيذ في طبقات الناس إنما كان حكمهم على الدهماء وأهل الريب والضرب على أيدي الرعاع والفجرة. ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية بالأندلس ونوعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى. وجعل حكم الكبرى على الخاصة والدهماء. وجعل له الحكم على أهل المراتب السلطانية والضرب على أيديهم في الظلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه. وجعل صاحب الصغرى مخصوصاً بالعامة. ونصب لصاحب الكبرى كرسي بباب دار السلطان ورجال يتبؤون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه. وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حتى كانت ترشيحاً للوزارة والحجابة. وأما في دولة الموحدين بالمغرب فكان لها حظ من التنويه وإن لم يجعلوها عامة. وكان لا يليها إلا رجالات الموحدين وكبراؤهم. ولم يكن له التحكم على أهل المراتب السلطانية. ثم فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين. وأما في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت من مواليهم وأهل اصطناعهم وفي دولة الترك بالمشرق في رجالات الترك أو أعقاب أهل الدولة قبلهم من الكرد يتخيرونهم لها في النظر بما يظهر منهم من الصلابة والمضاء في الأحكام لقطع مواد الفساد وحسم أبواب الدعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشرعية والسياسية كما تقتضيه رعاية المصالح العامة في المدينة. والله مقلب الليل والنهار وهو العزيز الجبار والله تعالى أعلم. قيادة الأساطيل وهي من مراتب الدولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرؤوسة لصاحب السيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال. ويسمى صاحبها في عرفهم الملند بتفخيم اللام منقولاً من لغة الأفرنجة فإنه اسمها في اصطلاح لغتهم. وإنما اختصت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنهما جميعاً على ضفة البحر الرومي من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبية بلاد البربر كلهم من سبتة إلى الإسكندرية إلى الشام وعلى عدوته الشمالية بلاد الأندلس والإفرنجة والصقالبة والروم إلى بلاد الشام أيضاً ويسمى البحر الرومي والبحر الشامي نسبة إلى أهل عدوته. والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمة من أمم البحار. فقد كانت الروم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله. ولما أسف من أسف منهم إلى ملك العدوة الجنوبية مثل الروم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا في الأساطيل وملكوها وتغلبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لهم بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة. وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومة. ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث. ولما ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن صف لي البحر فكتب إليه: " إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود ". فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه. ولم يركبه أحد من العرب إلا من افتأت على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزدي سيد بجيلة لما أغزاه عمان فبلغه غزوه في البحر فأنكر عليه وعنفه أنه ركب البحر للغزو. ولم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده. والسبب في ذلك أن العرب كانوا لبداوتهم لم يكونوا أول الأمر مهرة في ثقافته وركوبه والروم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدراية بثقافته. فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولاً لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته استحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشؤوا السفن فيه والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس. وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسان بن النعمان عامل إفريقية باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الألات البحرية حرصاً على مراسم الجهاد. ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرة أيضاً في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزي صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات. وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديين والأمويين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السواحل بالإفساد والتخريب. وانتهى أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريباً منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن رماحس ومرفأها للحط والإقلاع بجاية والمرية. وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كل بلد يتخذ فيه السفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبر أمر جريته بالريح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه. فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلهم إليه ثم يسرحهم لوجههم وينتظر إيابهم بالفتح والغنيمة. وكان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرص وسائر ممالك الروم والإفرنج. وكان أبو القاسم الشيعي وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر والغنيمة. وافتتح مجاهد العامري صاحب دانية من ملوك الطوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النصارى لوقتها. والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثيبر من لجة هذا البحر وسارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيام بني الحسين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها. وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعدداً واختلفت في طرقه سلماً وحرباً فلم تسبح للنصرانية فيه ألواح. حتى إذا أدرك الدولة العبيدية والأموية الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها. ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكا واستولوا على جميع الثغور بسواحل الشام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لإظهار دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين من يد أعقاب بلكين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر. وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو معروف في أخبارهم. فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقية والمغرب فصارت مختصة بها. وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيفه عدو ولا كانت لهم به كرة. فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعاً. ولما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف وأعظم ما عهد. وكان قائد أسطولهم أحمد الصقلي أصله من صدغيار الموطنين بجزيرة جربة من سرويكش أسره النصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلية واستكفاه ثم هلك وولي ابنه فأسخطه ببعض النزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السيد بها من بني عبد المؤمن وأجاز إلى مراكش فتلقاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرة والكرامة وأجزل الصلة وقلده أمر أساطيله فجلى في جهاد أمم النصرانية وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحدين. وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه. ولما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثغور من كل ناحية قريبة لبيت المقدس الذي كانوا قد استولوا عليه فأمدوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشرقي من البحر وتعدد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل. فأوفد صلاح الدين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالباً مدد الأساطيل لتجول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من إمداد النصرانية بثغور الشام وأصحبه كتابه إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيساني يقول في افتتاحه: " فتح الله لسيدنا أبواب المناجح والميامن " حسبما نقله العماد الأصفهاني في كتاب الفتح القدسي. فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرها في نفسه وحملهم على مناهج البر والكرامة وردهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك. وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنصرانية في الجانب الشرقي من هذا البحر من الإستطالة وعدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده بشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة. ولما هلك أبو يعقوب المنصور واعتلت دولة الموحدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجأوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية وعديدهم. ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية. ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجته وعلى أعواده. وصار المسلمون فيه كالأجانب إلا قليلاً من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأمصار والأعوان أو قوه من الدولة تستجيش لهم أعواناً وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكاً. وبقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة والرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والركوب معهوداً لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية. والمسلمون يستهبون الريح على الكفر وأهله. فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الجدثان انه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وإن ذلك يكون في الأساطيل. والله ولي المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الخامس والثلاثون في السيف والقلم
اعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره. إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني والسيف شريك في المعونة. وكذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها كما ذكرناه ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قدمناه فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها. فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين. ويكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاهاً وأكثر نعمة وأسنى إقطاعاً. وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره ولم يبق همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والظبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلا إذا نابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة وما سوى ذلك فلا حاجة إليها. فيكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاهاً وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجياً لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنظر في أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السلطان حذرين على أنفسهم من بوادره. وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم: " أما بعد فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء ". سنة الله في عباده والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به
اعلم أن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأبهة والبذخ فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته. فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة " وفوق كل ذي علم عليم ". الآلة: فمن شارات الملك اتخاذ الألة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون. وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة. ولعمري إنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه. وهذا السبب الذي ذكره أرسطو - إن كان ذكره - فهو صحيح ببعض الاعتبارات. وأما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه. وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصفير والصريخ كما علمت. ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء. وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى. ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الألات الموسيقية لا طبلاً ولا بوقاً فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيدركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة. ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قرن إلى قرنه. وكذلك زناتة من أمم المغرب. يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف ويتغنى فيدرك بغنائه الجبال الرواسي ويبعث على الاستماتة من لا يظن بها ويسمون ذلك الغناء تاصوكايت. وأصله كله قرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح. والله أعلم. وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر وربما يحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام وأحوال النفوس وتلوناتها غريبة. والله الخلاق العليم. ثم إن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر ومنهم مقلل بحسب اتساع الدولة وعظمها. فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء. وأما قرع الطبول والنفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزهاً عن غلظة الملك ورفضاً لأحواله واحتقاراً لأبهته التي ليست من الحق في شيء. حتى إذ ا انقلبت الخلافة ملكاً وتبجحوا بزهرة الدنيا ونعيمها ولابسهم الموالي من الفرس والروم أهل الدول السالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الألة فأخذوها وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويهاً بالملك وأهله. فكثيراً ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات فلا يميز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم ونعياً على بني أمية في قتلهم ولذلك سموا المسودة. ولما افترق أمر الهاشميين وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً وسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من ولما نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء. وأما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد وقد كانت آلة العبيديين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق. وأما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب واتخذوها من الحرير الخالص ملونة واستمروا على الإذن فيها لعمالهم. حتى إذا جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الألة من الطبول والبنود على السلطان وحظروها على من سواه من عماله وجعلوا لها موكباً خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة. وهم فيه بين مكثر ومقلل باختلاف مذاهب الدول في ذلك: فمنهم من يقتصر على سبع من العدد تبركاً بالسبعة كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة. وقد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول ومائة من البنود ملونة بالحرير منسوجة بالذهب ما بين كبير وصغير. ويأذنون للولاة والعمال والقواد في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء وطبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك. وأدا دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون أولاً راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر وهي شعار السلطان عندهم ثم تتعدد الرايات ويسمونها السناجق واحدها سنجق وهي الراية بلسانهم. وأما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمونها الكوسات ويبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان. وأما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعداً ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم وهكذا يبلغنا عنهم وعمن وراءهم من ملوك العجم. " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ". السرير: وأما السرير والمنبر والتخت والكرسي فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد. ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم. وقد كانوا يجلسون على أسرة الذهب. وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسي وسرير من عاج مغشى بالذهب. إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال والترف شأن الأبهة كلها كما قلناه. وأما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوفون إليه. وأول من اتخذه في الإسلام معاوية واستأذن الناس فيه وقال لهم: إني قد بدنت فأذنوا له فاتخذه واتبعه الملوك الإسلاميون فيه وصار من منازع الأبهة. ولقد كان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذهب محمول على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه وفاء له بما عقد معهم من الذمة واطراحاً لأبهة الملك. ثم كان بعد ذلك لبني العباس والعبيديين وسائر ملوك الإسلام شرقاً وغرباً من الأسرة والمنابر والتخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة. والله مقلب الليل والنهار. السكة: وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى وبعد تقدير أشخاص الدراهم والدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عدداً وإن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً. ولفظ السكة كان اسماً للطابع وهي الحديدة المتخذة لذلك ثم نقل إلى أثرها وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم ثم نقل إلى القيام على ذلك والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علماً عليها في عرف الدول. وهي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة. وكان ملوك العجم يتخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك ولم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم. ولما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين وبداوة العرب. وكانوا يتعاملون بالذهب والفضة وزناً وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم يردونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغش في الدنانير والدراهم لغفلة الدولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجاج على ما نقل سعيد بن المسيب وأبو الزناد بضرب الدراهم وتمييز المغشوش من الخالص وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدايني سنة خمس وسبعين ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست وسبعين وكتب عليها: " الله أحد الله الصمد ". ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام يزيد بن عبد الملك فجود السكة ثم بالغ خالد القسرفي في تجويدها ثم يوسف بن عمر بعده. وقيل: أول من ضرب الدنانير والدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين: " بركة الله " وفي الآخر " اسم الله " ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجاج وقدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر. وذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل. وكان السبب في ذلك ان أوزان الدرهم أيام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطاً ومنها اثنا عشر ومنها عشرة فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطاً فكان المثقال درهماً وثلاثة أسباع درهم. وقيل كان منها البغلي بثمانية دوانق والطبري أربعة دوانق والمغربي ثمانية دوانق واليمني ستة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التعامل فكان البغلي والطبري وهما اثنا عشر دانقاً. وكان الدرهم ستة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالاً وإذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهماً. فلما رأى عبد الملك اتخاذ السكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه واتخذ طابع الحديد واتخذ فيه كلمات لا صوراً لأن العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع أن الشرع ينهى عن الصور. فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها. وكان الدينار والدرهم على شكلين مدورين والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلاً وتحميداً وصلاة على النبي وآله وفي الوجه الثاني التاريخ واسم الخليفة. وهكذا أيام العباسيين والعبيديين والأمويين. وأما صنهاجة فلم يتخذوا سكة إلا آخر الأمر اتخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه. ولما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ سكة الدرهم مربع الشكل وأن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلاً وتحميداً ومن الجانب الآخر كتباً في السطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحدون وكانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد. ولقد كان المهدي فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع نعته بذلك المتكلمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته.
وأما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرة وإنما يتعاملون بالدنانير والدراهم وزناً بالصنجات المقدرة بعدة منها ولا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل والصلاة واسم السلطان كما يفعله أهل المغرب. " ذلك تقدير العزيز العليم ". ولنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم والدينار الشرعيين وبيان حقيقة مقدارهما. مقدار الدرهم والدينار الشرعيين وذلك أن الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالأفاق والأمصار وسائر الأعمال والشرع قد تعرض لذكرهما وعلق كثيراً من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها. فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدار معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما. فاعلم أن الاجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتامعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعين درهماً وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتنان وسبعون حبة من الشعير. فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة. وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع. فإن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري وهو أربعة دوانق والبغلي وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشرعي بينهما وهو ستة دوانق. فكانوا يوجبون الزكاة في مائة ددرهم بغلية ومائة طبرية خمسة دراهم وسطاً. وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك وإجماع الناس بعد عليه كما ذكرناه ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السنن والماوردي في الأحكام السلطانية وأنكره المحققون من المتأخرين لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه. والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق. وكان مقدارهما غير مشخص في الخارج وإنما كان متعارفاً بينهم بالحكم الشرعي على المقدر في مقدارهما وزنتهما. حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير. وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في الذهن ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه إثر الشهادتين الإيمانتين وطرح النقود الجاهلية رأساً حتى خلصت ونقش عليها سكة وتلاشى وجودها. فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه. ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم واختلفت في كل الأقطار والآفاق ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهناً كما كان في الصدر الأول وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التى بينها وبين مقاديرها الشرعية. وأما وزن الدينار باثنين وسبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع إلا ابن حزم خالف ذلك وزعم أن وزنه أربعة وثمانون حبة نقل ذلك عنه القاضي عبد الحق ورده المحققون وعدوه وهماً وغلطاً وهو الصحيح. " ويحق الله الحق بكلماته ". وكذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشرعية متحدة ذهناً لا اختلاف فيها. " والله خلق كل شيء فقدره تقديراً ". وأما الخاتم فهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية. والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له: إن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه: " محمد رسول الله ". قال البخاري: " جعل ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به وقال: لا ينقش أحد مثله " قال: " وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد واغتم عثمان وتطير منه وصنع آخر على مثله. وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه. وذلك أن الخاتم يطلق على الألة التي تجعل في الأصبع ومنه تختم إذا لبسه. ويطلق على النهاية والتمام ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر. ويطلق على السداد الذي يسد به الأواني والدنان ويقال فيه ختام ومنه قوله تعالى: " ختامه مسك " وقد غلط من فسر هذا بالنهاية والتمام قال لأن آخر ما يجدونة في شرابهم ريح المسك وليس المعنى عليه وإنما هو من الختام الذي هو السداد لأن الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها ويطيب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأن سدادها من المسك وهو أطيب عرفاً وذوقاً من القار والطين فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشىء عنها. وذلك أن الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في مذاق من الطين أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصفح. وكذلك إذا طبع به على جسم لين كالشمع فإنه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه. وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النقش على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح كما كان في النقش من يمين أو يسار. فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين ووضعه على الصفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه كأن الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام. وقد يكون هذا الختم بالخط آخر الكتاب أو أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب كائناً من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخط علامة على صحة الكتاب ونفوذه ويسمى ذلك في المتعارف علامة ويسمى ختماً تشبيهاً له بأثر الخاتم الأصفي في النقش ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه ومنه خاتم السلطان أو الخليفة أي علامته. قال الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفراً ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى: " يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي ". فكنى له بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرسائل والصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم. ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطبري أن معاوية أرسل إلى الحسن عند مراودته إياه في الصلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك. ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصحيفة بخطه أو غيره. ويحتمل أن يختم به في جسم لين فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السداد كما مر. وهو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم. وأول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله. واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم ذكره الطبري. وقال آخرون: وحزم الكتب ولم تكن تحزم أي جعل لها السداد. وديوان الختم عبارة عن الكتاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان والختم عليها إما بالعلامة أو بالحزم. وقد يطلق الديوان على مكان جلوس هؤلاء الكتاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال. والحزم للكتب يكون إما بمس الورق كما في عرف كتاب المغرب وأما بلصق رأس الصحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق. وقد يجعل على مكان الدس أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطلاع على ما فيه. فأهل المغرب يجعلون على مكان الدس قطعة من الشمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النقش في الشمع. وكان في المشرق في الدول القديمة يختم على مكان اللصق بخاتم منقوش أيضاً قد غمس في مذاق من الطين معد لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النقش عليه. وكان هذا الطين في الدولة العباسية يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنه مخصوص بها. فهذا الخاتم الذي هو العلامة المكتوبة أو النقش للسداد والحزم للكتب خاص بديوان الرسائل. وكان ذلك للوزير في الدولة العباسية. ثم اختلف العرف وصار لمن إليه الترسيل وديوان الكتاب في الدولة. ثم صاروا في دول المغرب يغدون من علامات الملك وشاراته الخاتم للأصبع فيستجيدون صوغه من الذهب ويرصعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزمرد ويلبسه السلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية والمظلة في الدولة العبيدية. والله مصرف الأمور بحكمه. من أبهة الملك والسلطان ومذاهب الدول أن ترسم أسماوهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاماً وأسداء بخيط الذهب أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب على ما يحكمه الصناع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصد التنويه بلابسها من السلطان فمن دونه أو التنويه بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته. وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معينة لذلك. ثم اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السجلات. وكان ذلك في الدولتين من أبهة الأمور وأفخم الأحوال. وكانت الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمى دور الطراز لذلك. وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز ينظر في أمور الصباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلالتهم ومشارفة أعمالهم. وكانوا يقلدون ذلك لخواص دولتهم وثقات مواليهم. وكذلك كان الحال في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف من بعدهم وفي دولة العبيديين بمصر ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق. ثم لما ضاق نطاق الدول عن الترف والتفنن فيه لضيق نطاقها في ولما جاءت دولة الموحدين بالمغرب بعد بني أمية أول المائة السادسة لم يأخذوا بذلك أول دولتهم لما كانوا عليه من منازع الديانة والسذاجة التي لقنوها عن إمامهم محمد بن تومرت المهدي وكانوا يتوزعون عن لباس الحرير والذهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدولة طرفاً لم يكن بتلك النباهة. وأما لهذا العهد فأدركنا بالمغرب في الدولة المرينية لعنفوانها وشموخها رسماً جليلاً لقنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتبع هو في ذلك ملوك الطوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر. وأما دولة الترك بمصر والشام لهذا العهد ففيها من الطراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلا أن ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم وإنما ينسج ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير ومن الذهب الخالص ويسمونه المزركش لفظة أعجمية ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه ويعده الصناع لهم فيما يعدونه للدولة من طرف الصناعة اللائقة بها. والله مقدر الليل والنهار والله خير الوارثين. الفساطيط والسياج اعلم أن من شارات الملك وترفه اتخاذ الأخبية والفساطيط والفازات من ثياب الكتان والصوف والقطن بجدل الكتان والقطن فيباهى بها في الأسفار وتنوع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدولة في الثروة واليسار وإنما يكون الأمر في أول الدولة في بيوتهم التي جرت عادتهم باتخاذها قبل الملك. وكان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياماً من الوبر والصوف. ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم. فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد. وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرقة الأحياء يغيب كل واحد منها عن نظر صاحبه في الأخرى كشأن العرب. ولذلك كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على آثره أن يقيموا إذا ظعن. ونقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباع وقصتها في إحراق فساطيط روح وخيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة. ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجاج بين العرب فإنه لا يتولى إرادتهم على الظعن إلا من يأمن بوادر السفهاء من أحيائهم بما له من العصبية الحائلة دون ذلك ولذلك اختصه عبد الملك بهذه الرتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيته وصرامته. فلما تفننت الدولة العربية في مذاهب الحضارة والبذخ ونزنوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخف إلى ظهر الحافر اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتاً مختلفة الأشكال مقدرة الأمثال من القوراء والمستطيلة والمربعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزينة ويدير الأمير القائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجاً من الكتان يسمى في المغرب بلسان البربر الذي هو لسان أهله " أفراك بالكاف التي بين الكاف والقاف ويختص به السلطان بذلك القطر لا يكون لغيره. وأما في المشرق فيتخذه كل أمير وإن كان دون السلطان. ثم جنحت الدعة بالنساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم فخف لذلك ظهرهم وتقاربت الساح بين منازل العسكر واجتمع الجيش والسلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهواً أنيقاً لاختلاف ألوانه. واستمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها وترفها. وكذا كانت دولة الموحدين وزناتة التي أظلتنا. كان سفرهم أول أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطن حتى إذا أخذت الدولة في مذاهب الترف وسكنى القصور عادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط وبلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من الترف بمكان. إلا أن العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصيحة ولخفتهم من الأهل والولد الذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفظ آخر. والله القوى العزيز. وهما من الأمور الخلافية ومن شارات الملك الإسلامي ولم يعرف في غير دول الإسلام. فأما البيت المقصورة من المسجد لصلاة السلطان فيتخذ سياجاً على المحراب فيحوزه وما يليه. فأول من اتخذها معاوية بن أبي سفيان حين طعنه الخارجي والقصة معروفة وقيل أول من اتخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليماني. ثم اتخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة. وهي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول والاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها. وما زال الشأن ذلك في الدول الإسلامية كلها. وعند افتراق الدولة العباسية وتعدد الدول بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدولة الأموية وتعدد ملوك الطوائف. وأما المغرب فكان بنو الأغلب يتخذونها بالقيروان ثم الخلفاء العبيديون ثم ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس وبنو حماد بالقلعة. ثم ملك الموحدون سائر المغرب والأندلس ومحوا ذلك الرسم على طريقة البداوة التي كانت شعارهم. ولما استفحلت الدولة وأخذت بحظها من الترف وجاء أبو يعقوب المنصوز ثالث ملوكهم فاتخذ هذه المقصورة وبقيت من بعده سنة لملوك المغرب والأندلس. وهكذا كان الشأن في سائر الدول. سنة الله في عباده. وأما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن أولاً عند الخلفاء ولاية الصلاة بأنفسهم. فكانوا يدعون لذلك بعد الصلاة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والرضا عن أصحابه. وأول من اتخذ المنبر عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر. وأول من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس دعا لعلي رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها قال: اللهم انصر علياً على الحق. واتصل العمل على ذلك فيما بعد. وبعد أخذ عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطاب: " أما مد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك! فعزمت عليك إلا ما كسرته. فلما حدثت الأبهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصلاة استنابوا فيهما. فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهاً باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه ولأن تلك ساعة مظنة للإجابة ولما ثبت عن السلف في قولهم: من كانت له دعوة صالحة ليضعها في السلطان. وكان الخليفة يفرد بذلك. فلما جاء الحجر والاستبداد صار المتغلبون على الدول كثيراً ما يشاركون الخليفة بذذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه. وذهب ذلك بذهاب تلك الدول وصار الأمر إلى ختصاص السلطان بالدعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن يشاركه فيه أحد يسمو إليه. وكثيراً ما يغفل الماهدون من أهل الدول هذا الرسم عندما تكون الدولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التغافل والخشونة ويقنعون بالدعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور المسلمين. ويسمون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عباسية يعنون بذلك أن الدعاء على الإجمال إنما يتناول العباسي تقليداً في ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتصريح باسمه. يحكى أن يغمراسن بن زيان ماهد دولة بني عبد الواد لما غلبه الأمير أبو زكريا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثم بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن: تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاؤوا. وكذلك يعقوب بن عبد الحق ماهد دولة بني مرين حضره رسول المستنصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم وتخلف بعض أيامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرسول كراهية لخلو الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدعاء له وكان ذلك سبباً لأخذهم بدعوته. وهكذا شأن الدول في بدايتها وتمكنها في الغضاضة والبداوة. فإذا انتبهت عيون سياستهم ونظروا في أعطاف ملكهم واستتموا شيات الحضارة ومعاني البذخ والأبهة انتحلوا جميع هذه السمات وتفننوا فيها وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلو دولتهم من آثارها. والعالم بستان. والله على كل شيء رقيب. في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله. وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته. فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الإنتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل. وسبب هذا الإنتقام في الأكثر: إما غيرة ومنافسة وإما عدوان ة وإما غضب لله ولدينه ث وإما غضب للملك وسعي في تمهيده. فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة. والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم. والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد. والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب: الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل وصفة الحروب الواقعة بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين: نوع بالزحف صفوفاً ونوع بالكر والفر. أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم. وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب. وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر. وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدماً. فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدو لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته. وفي التنزيل: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " أي يشد بعضهم بعضاً بالثبات. وفي الحديث الكريم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يسد بعضه بعضاً. ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات وتحريم التولي في الزحف فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنه جرها على المسلمين وأمكن منهم عدوهم فعظم الذنب لعموم المفسدة وتعديها إلى الدين بخرق سياجه فغد من الكبائر. ويظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع. وأما قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف. إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافاً ثابتاً يلجأون إليه في الكر والفر ويقوم لهم مقام قتال الزحف كما نذكره بعد. ثم إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساماً يسمونها كراديس ويسوون في كل كردوس صفوفه. وسبب ذلك أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة وحشدوا من قاصية النواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضاً إذا اختلطوا في مجال الحرب واعتوروا مع عدوهم الطعن والضرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النكراء وجهل بعضهم ببعض فلدلك كانوا يقسمون العساكر جموعاً ويضمون المتعارفين بعضهم لبعض ويرتبونها قريباً من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع. ورئيس العساكر كلها من سلطان أو قائد في القلب. ويسمون هذا الترتيب التعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والروم والدولتين صدر الإسلام. فيجعلون بين يدي الملك عسكراً منفرداً بصفوفه متميزاً بقائده ورايته وشعاره ويسمونه المقدمة ثم عسكراً آخر من ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمون الميمنة ثم عسكراً آخر من ناحية الشمال كذلك يسمون الميسرة ثم عسكراً آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمون موقفه القلب. فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم إما في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم واليومان بين كل عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلة والكثرة فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة. وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخفف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعين لذلك الحجاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في أخباره. وكان في الدولة الأموية بالأندلس أيضاً كثير منه وهو مجهول فيما لدينا لأنا إنما أدركنا دولاً قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطائفتين معاً يجمعهم لدينا حلة أو مدينة ويعرف كل واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه فاستغني عن تلك التعبئة. ضرب المصاف وراء العسكر ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم فيتخذونها ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب. وقد يفعله أهل الزحف أيضاً ليزيدهم ثباتاً وشدة. فقد كان الفرس وهم أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب ويحملون عليها أبراجاً من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات ويصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم. وانظر ما وقع من ذلك في القادسية وأن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بها على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع. وأما الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع الرايات في أركان السرير ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة فيعظم هيكل السرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكر والفر. وجعل ذلك الفرس أيام القادسية وكان رستم جالساً على سرير نصبه لجلوسه حتى إختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحول عنه إلى الفرات وقتل. وأما أهل الكر والفر من العرب وأكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمونها المجبوذة وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرة والهزيمة. وهو أمر مشاهد. وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل. فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف. وكان الحرب أول الإسلام كله زحفاً. وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر. لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران: أحدهما أن عدوهم كانوا يقاتلون زحفاً فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم الثاني: أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر ولما رسخ فيهم من الإيمان والزحف إلى الاستماتة أقرب. وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي والحبيري بعده. قال الطبري: لما ذكر قتال الحبيري: فولى الخواربخ عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري ويلقب أبا الذلفاء وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من يومئذ انتهى. فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف. وذلك إنها حينما كانت بدوية وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل وسكنى النساء والولدان معهم في الأحياء. فلما حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الأبل والظعائن وصعب عليهم اتخاذها فخلفوا النساء في الأسفار وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب. ولايغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال. فيخف الصبر من أجل ذلك وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم.