الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
قد بينا لك فيما سلف أن الملك والدول غاية للعصبية وأن الحضارة غاية للبداوة وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس. كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً. وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها. وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها. والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه كالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل. وللتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها. وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجاته. ثم تزيدها المكوس غلاء لأن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية الدولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم. والمكوس تعود على البياعات بالغلاء لأن السوقة والتجار كلهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ماينفقونه حتى في مؤونة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى الإسراف. ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات ويتتابعون في الإملاق والخصاصة ويغلب عليهم الفقر. ويقل المستامون للبضائع فتكسد الأسواق وتفسد حال المدينة. وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف. وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في الأسواق والعمران. وأما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوض عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والرباء في البياعات. ثم تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه واطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. وتجدهم أيضاً أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم إلا من عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة. ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب وأهملته الدولة من عدادها وغلب عليه خلق الجوار والصحابة وإن كانوا أصحابه أهل أنساب وبيوتات. وذلك أن الناس بشر متماثلون وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان وفسد خلق الخير فيه لم ينفعه زكاء نسبه ولاطيب منبته. ولهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى: "
قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب ولا يكاد ذلك يتخلف. والسبب فيه أمور: الأول: أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن التحذيق. ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة فتقل النفقات ويقصر الترف. فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة ونقصت أحوال الترف فيها نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأن الرعايا تبع للدولة فيرجعون إلى خلق الدولة: إما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر ويذهب منه كثير من عوائد الترف. وهي معنى ما نقول في خراب الأمر الثاني: أن الدولة إنما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب وإنما يكون بعد العداوة والخروب. والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الأخر فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة. وخصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف فتكون عنها حضارة مستأنفة. . وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصهما ومعنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثالث: أن كل أمة لا بد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية ملكهم. وإذا ملكوا وطناً آخر تبعاص للأول وأمصاره تابعة لأمصار الأول. واتسع نطاق الملك عليهم. ولابد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة لأنه شبه المركز للنطاق فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول. والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا فتنتقص حضارته وتمدنة وهو معنى اختلاله. وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس. وبالجملة فاتخاذ الأمر الرابع: أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة لا بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة. وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة. إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان المصر لأن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشىء في الدولة فهم شيعة لها. وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية فهم بالميل والمحبة والعقيدة. وطبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها. فبعضهم على نوع التغريب والحبس وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف بحيث لا يؤدي إلى النفرة حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة. وينزل مكانهم في حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر. وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه وهو معنى اختلال عمرانه. ثم لا بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتاً داخله البلى والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحه وله قدرة - على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك الأوضاع وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت ثم يعيد بناءه ثانياً. وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه. وعلمناه. والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة أن الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها. وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولة دون العمران لا تتصور والعمران دون الدولة والملك متعذر بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع فتتعين السياسة لذلك. أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة وإذا كانا لا ينفكان فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر كما كان عدمه مؤثراً في عدمه. والخلل العظيم إنما يكون من خلل الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم أو بني أمية أو بني العباس كذلك. وأما الدول الشخصية مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد فأشخاصها متعاقبة على العمران حافظة لوجوده وبقائه وقريبة الشبه بعضها من بعض فلا تؤثر كثير اختلال. لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة وهي مستمرة مع أشخاص الدول. فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران فأذهبت أهل الشوكة بأجمعهم عظم الخلل كما قررناه أولاً. والله قادر على ما يشاء. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز.
وذلك أنه من البين أن أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضاً لما في طبيعة العمران من التعاون. وما يستدعي من الأعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومون عليه ويستبصرون في صناعته ويختصون بوظيفته ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه لعموم البلوى به في المصر والحاجة إليه وما لا يستدعي في المصر يكون غفلاً إذ لا فائدة لمنتحله في الاحتراف به. وما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش فيوجد في كل مصر كالخياط والحداد والنجار وأمثالها. وما يستدعي لعوائد الترف وأحواله فإنما يوجد في المدن المستبحرة في العمارة الآخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاح والصائغ والدهان والطباخ والصفار والسفاج والفراش والذباح وأمثال هذه وهي متفاوتة. قدر ما تريد عوائد الحضارة وتستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع فتوجد بذلك المصر دون غيره. ومن هذا الباب الحمامات لأنها إنما توجد في الأمصار مستحضرة المستبحرة العمران لما يدعو إليه الترف والغنى من التنعم. ولذلك لا يكون في المدن المتوسطة. وإن نزع بعض الملوك والرؤساء إليها فيختطها ويجري أحوالها. إلا أنها إذا لم تكن لها داعيه من كافة الناس فسرعان ما تهجر وتخرب وتفر عنها القومة لقلة فائدتهم ومعاشهم منها. والله يقبض ويبسط. في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم علي بعض من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر وإن لم يكونوا أهل نسب واحد إلا أنه كما قدمناه أضعف مما يكون بالنسب وأنه تحصل به العصبية بعضاً مما تحصل بالنسب. وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر يجذب بعضهم بعضاً إلى أن يكونوا لحماً لحماً وقرابة قرابة تجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله فيفترقون شيعاً وعصائب. فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنظر في حماية بلدهم ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة. والنفوس بطباعها متطاوله على الغلب والرياسة فتطمح المشيخة - لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة - إلى لاستبداد وينازع كل صاحبه ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والأحلاف. ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب فيعصوصب كل لصاحبه ويتعين الغلب لبعضهم فيعطف على أكفائه ليغض من أعنتهم. ويتتبعهم بالقتل أو التغريب حتى يخضد منهم الشوكات النافذة ويقلم الأظفار الخادشة. ويستبد بمصره أجمع. ويرى أنه قد استحدث ملكاً يورثه عقبه وربما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم أصحاب القبائل والعشائر والعصبيات والزحوف والحروب والاقطار والممالك فيتحلون بها من الجلوس على السرير واتخاذ الآلة وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد والتختم والتحية والخطاب بالتهويل وما يسخر منه من يشاهد أحوالهم لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل. إنما دفعهم إلى ذلك تقلص الدولة والتحام بعض القرابات حتى صارت عصبية. وقد يتنزه بعضهم عن ذلك ويجري على مذاهب السذاجة فراراً من التعريض بنفسه للسخرية والعبث. وقد وقع هذا بإفريقية لهذا العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجريد من طرابلس وقابس وتؤزر ونفطة وقفصة وبسكرة والزاب وما إلى ذلك. سموا إلى مثلها عند تقلص ظل الدولة عنهم منذ عقود من السنين فاستغلبوا على أمصارهم واستبدوا بأمرها على الدولة في الأحكام والجباية وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرضة وأقطعوها جانباً من الملاينة والملاطفة والانقياد وهم بمعزل عنه. وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. وحدث في خلقهم من الغلظة والتجبر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم. ونظموا أنفسهم في عداد السلاطين على قرب عهدهم بالسوقة حتى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العباس وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكرة في أخبار الدولة. وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدولة الصنهاجية واستقل بأمصار الجريد أهلها واستبدوا على الدولة حتى انتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي ونقلهم كلهم من إمارتهم بها إلى المغرب ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن. وهذا التغلب يكون غالباً في أهل السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة والرياسة فى المصر وقد يحدث التغلب لبعض السفلة من الغوغاء والدهماء. وإذا حصلت له العصبية والالتحام بالأوغاد لأسباب يجرها له المقدار فيتغلب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة. والله سبحانه وتعالى غالب على أمره.
إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه. والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم والدين والملة صورة للوجود وللملك. وكلها مواد له والصورة مقدمة على المادة والدين إنما يستفاد من الشريعة وهي بلسلن العرب لما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها. واعتبرذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال: إنها خب أي مكر وخديعة. فلما هجر الدين اللغات الأعجمية وكان مان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً هجرت كلها في جميع ممالكها لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة. ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره إن كان بقي فى الدلالات على أصله وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام. وأيضاً فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها الهالكين في ترفها بما كثروا العجم الذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم. واللغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئاً فشيئاً. وسميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنها كانت أعرق في العروبية. ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغزب وصار لهم ملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين وصار ذلك مرجحاً لبقاء اللغة المضرية من الشعر والكلام إلا قليلاً بالأمصار عربية. فلما ملك التتر والمغول بالمشرق ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح وفسدت اللغة العربية على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر وبلاد الشمال وبلاد الروم وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من علوم العرب وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك. وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب لبقاء الدين طالباً لها فانحفظت بعض الشيء. وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق له أثر ولا عين حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي وكذا تدريسه في المجالس. والله أعلم بالصواب. والله مقدر الليل والنهار. صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية اعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوئه إلى أشده إلى كبره "
أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات إذ هي بسيطة وطبيعية فطرية لا تحتاج إلى نظر ولا علم ولهذا تنسب قي الخليقة إلى آدم أبي البشر وأنه معلمها والقائم عليها إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة. وأما الصنائع فهي ثانيتها ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدووثان عنه. ومن هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليقة فإنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى. وأما التجارة وإن كانت طبيعية في الكسب فالأكثر من طرقها ومذاهبها إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. ولذلك أباح الشرع فيه المكاسبة لما أنه من باب المقامرة إلا أنه ليس أخذاً لمال الغير مجاناً فلهذا اختص بالمشروعية. والله أعلم.
|