الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في الأمرين: أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها وأما سياسة الدنيا فبمقتضي رعايته لمصالحهم في العمران البشري. وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح. نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح. فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلامياً ويكون من توابعها. وقد ينفرد إذا كان في غير الملة. وله على كل حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعين خططاً وتتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم فيتم بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه. وأما المنصب الخلافي وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يختص بخطط ومراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين. فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة ونرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية. فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية وتنفيذ أحكام المشرع فيها على العموم. فأما إمامة الصلاة فهي أرفع هذه الخطط كلها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. ولقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم: ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس. وإذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة وأخرى دونها مختصة بقوم أو محلة وليست للصلوات العامة. فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء. وتعين ذلك إنما هو من طريق الأولى والاستحسان ولئلا يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة. وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجباً. وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان. وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السلطانية للماوردي وغيره فلا نطول بذكرها. ولقد كان الخلفاء الأولون لا يقلدونها لغيرهم من الناس. وانظر من طعن من إلى خلفاء في المسجد عند الأذان بالصلاة وترصدهم لذلك في أوقاتها يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وأنهم لم يكونوا يستخلفون بها. وكذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها واستعظاماً لرتبتها. يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه: قد جعلت لك حجابة بابي إلا عن ثلائة: صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير والآذن بالصلاة فإنه داع إلى الله والبريد فإن في تأخيره فساد القاصية. فلما جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والترفع عن مساواة الناس في دينهم ودنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان وفي الصلوات العامة كالعيدين والجمعة إشادة وتنويهاً. فعل ذلك كثير من خلفاء بني العباس والعبيديين صدر دولتهم. وأما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك ومنع من ليس أهلاً لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس. وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه والجلوس لذلك في المساجد. فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها أو النظر فى أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك وإن كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك على إذن. على أنه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجرمن نفسه يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل فيدل به المستهدي ويضل به المسترشد. وفي الأثر: " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على جراثيم جهنم ". فللسطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو رد. وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للتنازع إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجاً في عمومها. وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء منه بالمدينة وولى شريحاً بالبصرة وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة. وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه. يقول: " أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذله وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة. ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها. واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات. وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام ". انتهى كتاب عمر. وإنما كانوا يقفدون القضاء لغيرهم وإن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسد الثغور وحماية البيضة ولم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية. فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس واستخلفو فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم. وكانوا مع ذلك إنما يقفونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء ولا يقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك. وأما أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصاً كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى. واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته وتوابع ولايته. وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء. وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المعتدي وكأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه. ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد الأمارات والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصمين على الصلح واستحلاف الشهود وذلك أوسع من نظر القاضي. وكان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس رربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولاني وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي دواد. وربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف. وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس. فكانت تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب. وكان أيضاً النظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس والعبيديين بمصر والمغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة وهي وظيفة آخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً فيجعل للتهمة في الحكم مجالاً ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثابتة في محالها ويحكم في القود والقصاص ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة. ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في المولى التي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن. وانقسمت وظيفة الشرطة قسمين: منها وظيفة التهمة على الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعين ونصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية ويسمى تارة باسم الوالي وتارة باسم الشرطة. وبقي قسم التعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فجمع للقاضي مع ما تقدم وصار ذلك من توابع وظيفته وولايته. واستقر الأمر لهذا العهد على ذلك. وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبية الدولة. لأن الأمر لما كان خلافة دينية وهذه الخطة من مراسم الدين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب مواليهم بالحلف أو بالرق أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه. ولما انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كله ملكاً أو سلطاناً صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعض الشيء لأنها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثم خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم الترك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها. وذلك أن العرب كانوا يرونه أن الشريعة دينهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم وغيرهم لا يرون ذلك إنما يولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط. فصاروا يقلدونها من غيرعصابتهم ممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة. وكان أولئك المتأهلون لما أخذهم ترف الدول منذ مئين من السنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم وقلة الممانعة عن أنفسهم وصارت هذه الخطط في المولى الملوكية من بعد الخلفاء مختصة بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف والدعة البعداء عن عصبية الملك الذين هم عيال على الحامية وصار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة وأخذها بأحكام الشريعة لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم وإنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية ولم يكن لهم فيها من الحل والعقد شيء وإن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه إذ حقيقة الحل والعقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمن لا قدرة له عليه فلا حل له ولا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم وتلقي الفتاوى منهم فنعم. والله الموفق. وربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك وأن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراح الفقهاء والقضاة من الشورى مرجوح وقد قال صلى الله عليه وسلم: " العلماء ورثة الأنبياء ". فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه. وحكم الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأن الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو ترك وأما من لا عصبية له ولا يملك من أمر نفسه شيئاً ولا من حمايتها وإنما هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها! اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة. وأما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها. وإنما إكرامهم من تبرعات الملوك والأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين وتعظيم من ينتسب إليه بأي جهة انتسب. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " العلماء ورثة الأنبياء " فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات وكيفية القضاء في المعاملات ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتصفون إلا بالأقل منها وفي بعض الأحوال. والسلف رضوان الله عليهم وأهل الدين والورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها وتحققاً بمذاهبها. فمن حملها اتصافاً وتحققاً دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري. ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين والسلف والأئمة الأربعه ومن اقتفى طريقهم وجاء على آثرهم. وإذا انفرد واحد من الأئمة بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد ورث بصفة والفقيه الذي ليس بعابد لم يرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال ينصها علينا في كيفيات العمل وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا "
وأنه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء وذلك أنه لما بويع أبو بكر رضي الله عنه كان الصحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك. فلما بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته وطول إضافته وأنه يتزايد فيما بعد دائماً إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التمييز بتعدد الأضافات وكثرتها فلا يعرف. فكانوا يعدلون عن هذا اللقب إلى ما سواه مما يناسبه ويدعى به مثله. وكانوا يسمون قواد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة. وقد كان الجاهلية يدعون النبي صلى الله عليه وسلم أمير مكة وأمير الحجاز وكان الصحابة أيضاً يدعون واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به يقال: أن أول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل: عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وقيل: بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها اصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنه والله أمير المؤمنين حقاً فدعوه بذلك وذهب لقباً له في الناس. وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم سائر دولة بني أمية. ثم أن الشيعة خصوا علياً باسم الإمام نعتاً له بالإمامة التي هي أخت الخلافة وتعريضاً بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصوه بهذا الفقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلهم يسمون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخفاء حتى إذا يستولون على الدولة يحولون اللقب فيمن بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العباس فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذي جهروا بالدعاء له وعقدوا الرايات للحرب على أمره فلما هلك دعي أخوه السفاح بأمير المؤمنين. وكذا الرافضة بإفريقية فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهدي وكانوا أيضاً يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده. فلما استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين. وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس وتوارث الخلفاء هذا اللقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك الحجاز والشام والعراق: المواطن التي هي ديار العرب ومراكز الدولة وأهل الملة والفتح. وازداد كذلك في عنفوان الدولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميز بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث ذلك بنو العباس حجاباً لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في السنة السوقة وصوناً لها عن الابتذال فتلقبوا بالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد إلى آخر الدولة. واقتفى آثرهم في ذلك العبيديون بإفريقية ومصر وتجافى بنو أمية عن ذلك في المشرق قبلهم من الغضاضة والسذاجة لأن العروبية ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحول عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة. وأما بالأندلس فتلقبوا كسلفهم مع ما علموه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية وأنهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العباس. حتى إذا جاء عبد الرحمن الداخل الآخر منهم وهو الناصر بن محمد ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط لأول المائة الرابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسمل ذهب عبد الرحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر لدين الله وأخذت من بعده عادة ومذهباً لقن عنه ولم واستمر الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبية العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلب الموالي من العجم على بني العباس والصنائع على العبيديين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطوائف بالأندلس على أمر بني أمية واقتسموة وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسموا جميعاً باسم السلطان. فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب تشريفية حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدولة وعضد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة ونصير الدولة ونظام الملك وبهاء الدولة وذخيرة الملك وأمثال هذه. وكان العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة. فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها وعدولاً عن سمتها المختصة بها شأن المتغلبين المستبدين كما قلناه قبل. ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدولة والسلطان وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك مثل الناصر والمنصور زيادة على ألقاب يختصون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط فيقولون: صلاح الدين أسد الدين نور الدين. وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمظفر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف ينعى عليهم: مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتمد فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد وأما صنهاجة فاقتصروا على الألقاب التي كان الخلفاء العبيديون يلقبون بها للتنويه: مثل نصير الدولة ومعز الدولة. واتصل لهم ذلك لما أدالوا من دعوة العبيديين بدعوة العباسيين. ثم بعدت الشقة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السلطان. وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئاً من هذه الألقاب إلا اسم السلطان جرياً على مذاهب البداوة والغضاضة. ولما محي رسم الخلافة وتعطل دستها وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة تكميلاً لمراسم دينه. فخاطب المستظهر العباسي وأوفد عليه ببيعته عبد الله بن العربي وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية يطلبان توليته إياه على مغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيهم في لبوسه ورتبته وخاطبه فيه بأمير المؤمنين تشريفاً له واختصاصاً فاتخذها لقباً. ويقال: إنه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدباً مع رتبة الخلافة لما كان عليه. هو وقومه المرابطون من انتحال الدين واتباع السنة. وجاء المهدي على أثرهم داعياً إلى الحق آخذاً بمذاهب الأشعرية ناعياً على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة وما يؤول إليه ذلك من التجسيم كما هو معروف من مذهب الأشعرية. وسمى أتباعه الموحدين تعريضاً بذلك النكير. وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنه لا بد منه في كل زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمي بالإمام لما قلناه أولاً من مذهب الشيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشاعة إلى مذهبه في عصمة الإمام. وتنزه عند أتباعه عن أمير المؤمنين أخذاً بمذاهب المتقدمين من الشيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق. ثم انتحل عبد المؤمن ولي عهده اللقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثاراً به عمن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهدي من ذلك وأنه صاحب الأمم وأولياؤه من بعده كذلك دون كل أحد لانتفاء عصبية قريش وتلاشيها. فكان ذلك دأبهم. ولما انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أولهم مذاهب البداوة والسذاجة واتباع لمتونة في انتحال اللقب بأمير المؤمنين أدباً مع رتبة الخلافة التي كانوا على طاعتها لبني عبد المؤمن أولاً ولبني أبي حفص من بعدهم. ثم نزع المتأخرون منهم إلى اللقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغاً في منازع الملك وتتميماً لمذاهبه وسماته. والله غالب على أمره.
|