الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقال رحمه الله: قال الله تعالى: وفي التشهد: (التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين). وهذه الأصول التي أمر بها عمر بن الخطاب لشريح حيث قال: اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس وفي رواية فبما قضى به الصالحون. وكذلك قال ابن مسعود: من سئل عن شيء فليفت بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس. وكذلك روي نحوه عن ابن عباس وغيره ولذلك قال العلماء: الكتاب والسنة والإجماع وذلك أنه أوجب طاعتهم إذا لم يكن نزاع ولم يأمر بالرد إلى الله والرسول إلا إذا كان نزاع. فدل من وجهين من جهة وجوب طاعتهم ومن جهة أن الرد إلى الكتاب والسنة إنما وجب عند النزاع ; فعلم أنه عند عدم النزاع لا يجب وإن جاز لأن اتفاقهم دليل على موافقة الكتاب والسنة. وأمر بموالاتهم والموالاة تقتضي الموافقة والمتابعة كما أن المعاداة تقتضي المخالفة والمجانبة فمن وافقته مطلقا فقد واليته مطلقًا ومن وافقته في غالب الأمور فقد واليته في غالبها ومورد النزاع لم تواله فيه وإن لم تعاده. فأما الأمر باتباع الكتاب والسنة فكثير جدًا كقوله: وأما السلف فآيات أحدها: ما تقدم مثل قوله: ولو خرج المؤمنون عن الحق والهدى لما كانت لهم العزة إذ ذاك من تلك الجهة ; لأن الباطل والضلال ليس من الإيمان الذي يستحق به العزة والعزة مشروطة بالإيمان لقوله: ومنها قوله: ومنها قوله: والثاني التسليم عليهم وذلك يقتضي سلامتهم من العيوب كما سلم على المرسلين وعلى نوح وعلى المسيح. ومنها قوله ومنها قوله: شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم وربما كان حكما مجمعا عليه فمن ذلك قولهم: تطهير الماء إذا وقع فيه نجاسة خلاف القياس بل وتطهير النجاسة على خلاف القياس والتوضؤ من لحوم الإبل على خلاف القياس والفطر بالحجامة على خلاف القياس والسلم على خلاف القياس والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والقرض وصحة صوم المفطر ناسيًا والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس وغير ذلك من الأحكام: فهل هذا القول صواب أم لا؟ وهل يعارض القياس الصحيح النص أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد. فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين الأول قياس الطرد والثاني قياس العكس وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله. فالقياس الصحيح مثل أن يكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط. وكذلك القياس بإلغاء الفارق وهو: أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه. وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر. وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس: علمنا قطعا أنه قياس فاسد بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم فليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد وإن كان من الناس من لا يعلم فساده. ونحن نبين أمثلة ذلك مما ذكر في السؤال فالذين قالوا: المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس: ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة لأنها عمل بعوض والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض فلما رأوا العمل في هذه العقود غير معلوم والربح فيها غير معلوم قالوا: تخالف القياس وهذا من غلطهم ; فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات الخاصة التي يشترط فيها العلم بالعوضين والمشاركات جنس غير جنس المعاوضة وإن قيل إن فيها شوب المعاوضة. وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة الخاصة وإن كان فيها شوب معاوضة حتى ظن بعض الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص. و أيضًاح هذا: أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع: أحدها: أن يكون العمل مقصودا معلوما ; مقدورا على تسليمه. فهذه الإجارة اللازمة. والثاني: أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غرر فهذه الجعالة وهي: عقد جائز ليس بلازم فإذا قال: من رد عبدي الآبق فله مائة فقد يقدر على رده وقد لا يقدر وقد يرده من مكان قريب وقد يرده من مكان بعيد ; فلهذا لم تكن لازمة لكن هي جائزة فإن عمل هذا العمل استحق الجعل وإلا فلا ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعًا ; ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم مثل أن يقول أمير الغزو: من دل على حصن فله ثلث ما فيه " ويقول للسرية التي يسريها: لك خمس ما تغنمين أو ربعه. وقد تنازع العلماء في سلب القاتل: هل هو مستحق بالشرع؟ كقول الشافعي أو بالشرط كقول أبي حنيفة ومالك؟على قولين هما روايتان عن أحمد فمن جعله مستحقا بالشرط جعله من هذا الباب. ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلاً على شفاء المريض جاز كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي فرقاه بعضهم حتى برئ فأخذوا القطيع ; فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة. ولو استأجر طبيبًا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز ; لأن الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة. وأما النوع الثالث: فهو ما لا يقصد فيه العمل ; بل المقصود المال وهو المضاربة فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كما للجاعل والمستأجر قصد في عمل العامل ; ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء وإن سمي هذا جعالة بجزء مما يحصل بالعمل كان نزاعا لفظيا بل هذه مشاركة هذا بنفع بدنه وهذا بنفع ماله وما قسم الله من الربح كان بينهما على الإشاعة ; ولهذا لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر ; لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة. وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم من المزارعة فإنهم كانوا يشرطون لرب المال زرع بقعة بعينها وهو ما ينبت على الماذيانات وإقبال الجداول ونحو ذلك فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ولهذا قال الليث بن سعد وغيره: إن الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم هو أمر إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز ; أو كان قال. فبين أن النهي عن ذلك موجب القياس فإن مثل هذا لو شرط في المضاربة لم يجز ; لأن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلا بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع فإنهما يشتركان في المغنم وفي المغرم فإن حصل ربح اشتركا في المغنم وإن لم يحصل ربح اشتركا في الحرمان وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا ولهذا كانت الوضيعة على المال لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع العامل. ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل لا أجرة المثل فيعطى العامل ما جرت به العادة أن يعطاه مثله من الربح: إما نصفه وإما ثلثه وإما ثلثاه. فإما أن يعطي شيئًا مقدرًا مضمونًا في ذمة المالك كما يعطي في الإجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله. وسبب الغلط ظنه أن هذا إجارة فأعطاه في فاسدها عوض المثل كما يعطيه في المسمى الصحيح. ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين فلو أعطي أجرة المثل لأعطي أضعاف رأس المال وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءا من الربح إن كان هناك ربح فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة؟. وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنوا أنها إجارة بعوض مجهول فأبطلوها وبعضهم صحح منها ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه تمكن إجارتها. وجوزوا من المزارعة ما يكون تبعا للمساقاة إما مطلقا ; وإما إذا كان البياض الثلث. وهذا كله بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة وإنما جوزت للحاجة. ومن أعطى النظر حقه علم أن المزارعة أبعد عن الظلم والقمار من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة ; فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض فإذا وجب عليه الأجرة ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المتعاوضين على مقصوده دون الآخر. وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم من الإجارة. والأصل في العقود جميعها هو العدل ; فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب قال تعالى: وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المعاملات: كبيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع المزابنة والمحاقلة ونحو ذلك: هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما يكسبه المكتري في حانوته من المال هو من الميسر فهذا لا يجوز. وأما المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيء من الميسر بل هو من أقوم العدل. وهذا مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أحق بالجواز من المزارعة التي يكون فيها من رب الأرض ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزارعون على هذا الوجه وكذلك عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم. والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسوا ذلك على المضاربة فقالوا في المضاربة: المال من واحد والعمل من آخر وكذلك ينبغي أن يكون في المزارعة وجعلوا البذر من رب المال كالأرض. وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة ولأقوال الصحابة فهو من أفسد القياس ; وذلك أن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فهو نظير الأرض في المزارعة وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي فالعاقد إذا أخرج البذر ذهب عمله وبذره ورب الأرض ذهب نفع أرضه وبذر هذا كأرض هذا فمن جعل البذر كالمال كان ينبغي له أن يعيد مثل البذر إلى صاحبه كما قال مثل ذلك في المضاربة فكيف ولو اشترط رب البذر نظير عود بذره إليه لم يجوزوا ذلك. وليس هذا موضع بسط هذه المسائل وإنما الغرض التنبيه على جنس قول القائل: هذا يخالف القياس .
وأما [الحوالة] فمن قال: تخالف القياس قال: إنها بيع دين بدين وذلك لا يجوز وهذا غلط من وجهين: أحدهما: أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع. وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ والكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض وهذا كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة وكلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق وهو بيع كالئ بكالئ. وأما بيع الدين بالدين فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرناه وينقسم إلى بيع ساقط بساقط وساقط بواجب. وهذا فيه نزاع. الوجه الثاني: أن الحوالة من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع. فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي له في ذمة المحيل ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحوالة في معرض الوفاء فقال في الحديث الصحيح: (مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع). فأمر المدين بالوفاء ونهاه عن المطل وبين أنه ظالم إذا مطل وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء وهذا كقوله تعالى: ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شوب المعاوضة وقد ظن بعض الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاء الدين بسبب أن الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمته للمدين مثله يتقاص ما عليه بماله وهذا تكلف أنكره جمهور الفقهاء وقالوا: بل نفس المال الذي قبضه يحصل به الوفاء ولا حاجة أن نقدر في ذمة المستوفي دينًا وأولئك قصدوا أن يكون وفاء الدين بدين وهذا لا حاجة إليه بل الدين من جنس المطلق الكلي والمعين من جنس المعين فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة وأي معين استوفاه حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق .
ومن قال: القرض خلاف القياس قال: لأنه بيع ربوي بجنسه من غير قبض. وهذا غلط فإن القرض من جنس التبرع بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة فقال: (أو منيحة ذهب أو منيحة ورق). وباب العارية أصله أن يعطيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه ثم يعيده إليه فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار. وتارة يمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم يعيدها وتارة يعيره شجرة ليأكل ثمرها ثم يعيدها فإن اللبن والثمر يستخلف شيئًا بعد شيء بمنزلة المنافع ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع والمقرض يقرضه ما يقرضه لينتفع به ثم يعيد له بمثله فإن إعادة المثل تقوم مقام إعادة العين ولهذا نهي أن يشترط زيادة على المثل كما لو شرط في العارية أن يرد مع الأصل غيره. وليس هذا من باب البيع فإن عاقلا لا يبيع درهما بمثله من كل وجه إلى أجل ولا يباع الشيء بجنسه إلى أجل إلا مع اختلاف الصفة أو القدر كما يباع نقد بنقد آخر وصحيح بمكسور ونحو ذلك ولكن قد يكون في القرض منفعة للمقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا كرهها من كرهها والصحيح أنها لا تكره لأن المقترض ينتفع بها أيضًا ففيها منفعة لهما جميعا إذا أقرضه . وأما قول من يقول: إزالة النجاسة على خلاف القياس والنكاح على خلاف القياس ونحو ذلك: فهو من أفسد الأقوال وشبهتهم أنهم يقولون: الإنسان شريف والنكاح فيه ابتذال المرأة وشرف الإنسان ينافي الابتذال. وهذا غلط فإن النكاح من مصلحة شخص المرأة ونوع الإنسان والقدر الذي فيه من كون الذكر يقوم على الأنثى هو من الحكمة التي بها تتم مصلحة جنس الحيوان فضلا عن نوع الإنسان ومثل هذا الابتذال لا ينافي الإنسانية كما لا ينافيها أن يتغوط الإنسان إذا احتاج إلى ذلك وأن يأكل ويشرب وإن كان الاستغناء عن ذلك أكمل بل ما احتاج إليه الإنسان وحصلت له به مصلحته فإنه لا يجوز أن يمنع منه والمرأة محتاجة إلى النكاح وهو من تمام مصلحتها فكيف يقال: القياس يقتضي منعها أن تتزوج؟ وكذلك إزالة النجاسة فإن شبهة من قال: إنها تخالف القياس أن الماء إذا لاقاها نجس الماء ثم إذا صب ماء آخر لاقى الأول. وهلم جرا قالوا: فكان القياس أنها تنجس المياه المتلاحقة والنجس لا يزيل النجس. وهذا غلط فإنه يقال لم قلتم القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى النجاسة نجس؟ فإن قلتم: لأنه في بعض الصور كذلك. قيل: الحكم في الأصل ممنوع عند من يقول: الماء لا ينجس إلا بالتغير ومن سلم الأصل قال ليس جعل الإزالة مخالفة للقياس بأولى من جعل تنجس الماء مخالفا للقياس بأن يقال: القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس فهذا القياس أصح من ذلك لأن النجاسة تزول بالماء بالنص والإجماع وأما تنجس الماء بالملاقاة فمورد نزاع فكيف يجعل مواقع النزاع حجة على مواقع الإجماع والقياس أن يقاس موارد النزاع على مواقع الإجماع. ثم يقال: الذي يقتضيه المعقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس ; فإنه باق على أصل خلقه وهو طيب داخل في قوله تعالى: وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ; ومنهم من يختار هذا وهم أهل الحجاز وهو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول ; فإن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث والطيب والخبث باعتبار صفات قائمة بالشيء فما دام على حاله فهو طيب فلا وجه لتحريمه ; ولهذا لو وقعت قطرة خمر في جب لم يجلد شاربه. والذين يسلمون أن القياس نجاسة الماء بالملاقاة فرقوا بين ملاقاته في الإزالة وبين غيرها بفروق. منهم من قال: الماء هاهنا وارد على النجاسة وهناك وردت النجاسة عليه وهذا ضعيف ; فإنه لو صب ماء في جب نجس ينجس عندهم. ومنهم من قال: الماء إذا كان في مورد التطهير لإزالة الخبث أو الحدث لم يثبت له حكم النجاسة ولا الاستعمال إلا إذا انفصل وأما قبل الانفصال فلا يكون مستعملاً ولا نجسًا. وهذا حكاية مذهب ليس فيه حجة. ومنهم من قال: الماء في حال الإزالة جار والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهو أنص الروايتين عن أحمد وهو القول القديم للشافعي ولكن إزالة النجاسة تارة تكون بالجريان وتارة تكون بدونه كما لو صب الماء على الثوب في الطست. فالصواب أن مقتضى القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير والنجاسة لا تزول به حتى يكون غير متغير وأما في حال تغيره فهو نجس لكن تخفف به النجاسة وأما الإزالة فإنما تحصل بالماء الذي ليس بمتغير. وهذا القياس في الماء هو القياس في المائعات كلها أنها لا تنجس إذا استحالت النجاسة فيها ولم يبق لها فيها أثر ; فإنها حينئذ من الطيبات لا من الخبائث. وهذا القياس هو القياس في قليل الماء وكثيره ; وقليل المائع وكثيره فإن قام دليل شرعي على نجاسة شيء من ذلك فلا نقول: إنه خلاف القياس بل نقول: دل ذلك على أن النجاسة ما استحالت. ولهذا كان أظهر الأقوال في المياه مذهب أهل المدينة والبصرة: أنه لا ينجس إلا بالتغير وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد نصرها طائفة من أصحابه كالإمام أبي الوفاء بن عقيل ; وأبي محمد بن المنى. وكذلك الماء المستعمل في طهارة الحدث باق على طهوريته وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الماء لا ينجس) فلا يصير الماء جنبًا ولا يتعدى إليه حكم الجنابة. ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الدائم أو عن الاغتسال فيه لا يدل على أنه يصير نجسًا بذلك بل قد نهى عنه لما يفضي إليه البول بعد البول من إفساده أو لما يؤدي إلى الوسواس. كما (نهى عن بول الرجل في مستحمه وقال: عامة الوسواس منه). ونهيه عن الاغتسال قد جاء فيه أنه نهى - عن الاغتسال فيه بعد البول وهذا يشبه نهيه عن بول الإنسان في مستحمه. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم). والتفريق المروي فيه: (إن كان جامدا فألقوها وما حولها ; وإن كان مائعا فلا تقربوه) غلط - كما بينه البخاري والترمذي - وغيرهما وهو من غلط معمر فيه وابن عباس راويه أفتى فيما إذا ماتت أن تلقى وما حولها ويؤكل فقيل لهما: إنها قد دارت فيه فقال: إنما ذاك لما كانت حية ; فلما ماتت استقرت. رواه أحمد في مسائل ابنه صالح. وكذلك الزهري راوي الحديث أفتى في الجامد والمائع القليل والكثير ; سمنًا كان أو زيتًا ; أو غير ذلك: بأن تلقى وما قرب منها ويؤكل الباقي ; واحتج بالحديث فكيف قد يكون روى فيه الفرق؟. وحديث القلتين إن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك أيضًا فإن قوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث وفي اللفظ الآخر: لم ينجسه شيء) يدل على أن الموجب لنجاسته كون الخبث فيه محمولا فمتى كان مستهلكًا فيه لم يكن محمولا فمنطوق الحديث وتعليله لم يدل على ذلك. وأما تخصيص القلتين بالذكر فإنهم سألوه عن الماء يكون بأرض الفلاة ; وما ينوبه من السباع والدواب ; وذلك الماء الكثير في العادة فبين صلى الله عليه وسلم أن مثل ذلك لا يكون فيه خبث في العادة بخلاف القليل فإنه قد يحمل الخبث وقد لا يحمله ; فإن الكثيرة تعين على إحالة الخبث إلى طبعه ; والمفهوم لا يجب فيه العموم فليس إذا كان القلتان لا تحمل الخبث يلزم أن ما دونها يلزمه مطلقًا على أن التخصيص وقع جوابا لأناس سألوه عن مياه معينة ; فقد يكون التخصيص لأن هذه كثيرة لا تحمل الخبث والقلتان كثير ولا يلزم أن لا يكون الكثير إلا قلتين وإلا فلو كان هذا حدا فاصلا بين الحلال والحرام لذكره ابتداء ولأن الحدود الشرعية تكون معروفة كنصاب الذهب والمعشرات ونحو ذلك والماء الذي تقع فيه النجاسة لا يعلم كيله إلا خرصا ; ولا يمكن كيله في العادة فكيف يفصل بين الحلال والحرام بما يتعذر معرفته على غالب الناس في غالب الأوقات وقد أطلق في غير حديث قوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) و(الماء لا يجنب). ولم يقدره مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ومنطوق هذا الحديث يوافق تلك ومفهومه إنما يدل عند من يقول بدلالة المفهوم إذا لم يكن هناك سبب يوجب التخصيص بالذكر لا الاختصاص بالحكم وهذا لا يعلم هنا. وحديث الأمر بإراقة الإناء من ولوغ الكلب ; لأن الآنية التي يلغ فيها الكلب في العادة صغيرة ولعابه لزج يبقى في الماء ويتصل بالإناء فيراق الماء ويغسل الإناء من ريقه الذي لم يستحل بعد بخلاف ما إذا ولغ في إناء كبير. وقد نقل حرب عن أحمد في كلب ولغ في جب كبير فيه زيت فأمره بأكله. وبسط هذه المسائل له موضع آخر وإنما المقصود التنبيه على مخالفة القياس وموافقته .
وقول القائل: إن تطهير الماء على خلاف القياس هو بناء على هذا الأصل الفاسد وإلا فمن كان من أصله أن القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فالقياس عنده تطهيره ; فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها وإذا كانت العلة التغير فإذا زال التغير زالت النجاسة كما أن العلة لما كانت في الخمر الشدة المضطربة فإذا زالت طهرت. كيف والنجاسة في الماء واردة عليه كنجاسة الأرض؟. ولكن قد يقال: هذا مبني على [مسألة الاستحالة] وفيها نزاع مشهور ففي مذهب مالك وأحمد قولان ومذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر أنها تطهر بالاستحالة ومذهب الشافعي لا تطهر بالاستحالة. وقول القائل: إنها تطهر بالاستحالة أصح فإن النجاسة إذا صارت ملحا أو رمادًا فقد تبدلت الحقيقة وتبدل الاسم والصفة فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير لا تتناول الملح والرماد والتراب لا لفظا ولا معنى والمعنى الذي لأجله كانت تلك الأعيان خبيثة معدوم في هذه الأعيان فلا وجه للقول بأنها خبيثة نجسة. والذين فرقوا بين ذلك وبين الخمر قالوا: الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة فيقال لهم: وكذلك البول والدم والعذرة إنما نجست بالاستحالة فينبغي أن تطهر بالاستحالة .
وأما قول القائل: التوضؤ من لحوم الإبل على خلاف القياس فهذا إنما قاله لأنها لحم واللحم لا يتوضأ منه وصاحب الشرع قد فرق بين لحم الغنم ولحم الإبل كما فرق بين معاطن هذه ومبارك هذه فأمر بالصلاة في هذا ونهى عن الصلاة في هذا فدعوى المدعي أن القياس التسوية بينهما من جنس قول الذين قالوا فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في ذلك من إطفاء القوة الشيطانية ما يزيل المفسدة بخلاف من لم يتوضأ منها فإن الفساد حاصل معه ولهذا يقال: إن الأعراب بأكلهم لحوم الإبل مع عدم الوضوء منها صار فيهم من الحقد ما صار. ولهذا (أمر بالوضوء مما مست النار). وهو حديث صحيح وقد ثبت في أحاديث صحيحة أنه أكل مما مست النار ولم يتوضأ فقيل: إن الأول منسوخ لكن لم يثبت أن ذلك متقدم على هذا بل رواه أبو هريرة وإسلامه متأخر عن تاريخ بعض تلك الأحاديث كحديث السويق الذي كان بخيبر فإنه كان قبل إسلام أبي هريرة وقيل: بل الأمر بالتوضؤ مما مست النار استحباب كالأمر بالتوضؤ من الغضب وهذا أظهر القولين وهما وجهان في مذهب أحمد. فإن النسخ لا يصار إليه إلا عند التنافي والتاريخ وكلاهما منتف بخلاف حمل الأمر على الاستحباب فإن له نظائر كثيرة. وكذلك التوضؤ من مس الذكر ومس النساء هو من هذا الباب لما فيه من تحريك الشهوة ; فالتوضؤ مما يحرك الشهوة كالتوضؤ من الغضب وما مسته النار: هو من هذا الباب: فإن الغضب من الشيطان والشيطان من النار وأما لحم الإبل فقد قيل: التوضؤ منه مستحب لكن تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين لحم الغنم - مع أن ذلك مسته النار والوضوء منه مستحب - دليل على الاختصاص وما فوق الاستحباب إلا الإيجاب ولأن الشيطنة في الإبل لازمة وفيما مسته النار عارضة ولهذا نهى عن الصلاة في أعطانها للزوم الشيطان لها بخلاف الصلاة في مباركها في السفر فإنه جائز لأنه عارض والحشوش محتضرة فهي أولى بالنهي من أعطان الإبل. وكذلك الحمام بيت الشيطان وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة عن أحمد روايتان على أن الحكم مما عقل معناه فيعدي أو ليس كذلك؟. والخبائث التي أبيحت للضرورة كلحوم السباع أبلغ في الشيطنة من لحوم الإبل فالوضوء منها أولى. وقد تنازع العلماء في الوضوء من النجاسة الخارجة من غير السبيلين ; كالفصاد ; والحجامة والجرح والقيء والوضوء من مس النساء لشهوة وغير شهوة والتوضؤ من مس الذكر والتوضؤ من القهقهة فبعض الصحابة كان يتوضأ من مس الذكر كسعد وابن عمر كثير منهم لم يكن يتوضأ منه والوضوء منه هل هو واجب أو مستحب؟ فيه عن مالك وأحمد روايتان وإيجابه قول الشافعي وعدم الإيجاب مذهب أبي حنيفة. وكذلك مس النساء لشهوة إذا قيل باستحبابه فهذا يتوجه وأما وجوب ذلك فلا يقوم الدليل إلا على خلافه ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أصحابه بالوضوء من مس النساء ولا من النجاسات الخارجة ; لعموم البلوى بذلك وقوله تعالى: وقوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة). تعليل لعدم وجوب الغسل لا لوجوب الوضوء فإن وجوب الوضوء لا يختص بدم العروق بل كانت قد ظنت أن ذلك الدم هو دم الحيض الذي يوجب الغسل فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس هو دم الحيض الذي يوجب الغسل فإن ذلك يرشح من الرحم كالعرق وإنما هذا دم عرق انفجر في الرحم ودماء العروق لا توجب الغسل وهذه مسائل مبسوطة في مواضع أخر. والمقصود هنا التنبيه على فساد [قول] من يدعي التناقض في معاني الشريعة أو ألفاظها ويزعم أن الشارع يفرق بين المتماثلين بل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعث بالهدى ودين الحق بالحكمة والعدل والرحمة فلا يفرق بين شيء ين في الحكم إلا لافتراق صفاتهما المناسبة للفرق ولا يسوي بين شيء ين إلا لتماثلهما في الصفات المناسبة للتسوية. والأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر ولا النساء ولا خروج النجاسات من غير السبيلين ولا القهقهة ولا غسل الميت فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب لكن الاستحباب متوجه ظاهر فيستحب أن يتوضأ من مس النساء لشهوة ويستحب أن يتوضأ من الحجامة والقيء ونحوهما كما في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ). والفعل إنما يدل على الاستحباب ولم يثبت عنه أنه أمر بالوضوء من الحجامة ولا أمر أصحابه بالوضوء إذا جرحوا مع كثرة الجراحات والصحابة نقل عنهم فعل الوضوء لا إيجابه. وكذلك القهقهة في الصلاة ذنب ويشرع لكل من أذنب أن يتوضأ وفي استحباب الوضوء من القهقهة وجهان في مذهب أحمد وغيره. وأما الوضوء من الحدث الدائم لكل صلاة ففيه أحاديث متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد صحح بعضها غير واحد من العلماء فقول الجمهور الذين يوجبون الوضوء لكل صلاة أظهر ; وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد والله أعلم .
|