الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
ذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في كتاب التوحيد؛ لأن المشركين الذي يعبدون الأصنام يقولون: إنها شفاعة لهم عند الله، وهم يشركون بالله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك. وهم بذلك يظنون أنهم معظمون لله، ولكنهم منتقصون له؛ لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة؛ فلا يحتاج إلى شفعاء. ويقولون: إننا نعبدهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، فيقربنا إلى الله، وهم ضالون في ذلك؛ فهوسبحانه عليم وقدير وذوسلطان،ومن كان كذلك؛ فإنه لا يحتاج إلى شفعاء. والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء؛ إما لقصور علمهم، أولنقص قدرتهم؛ فيساعدهم الشفعاء في ذلك، أولقصور سلطانهم؛ فيتجرأ عليهم الشفعاء، فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله ـ عز وجل ـ كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده سبحانه إلا بإذنه لكمال سلطانه وعظمته. ثم الشفاعة لا يراد بها معونة الله ـ سبحانه ـ في شيء مما شفع فيه؛ فهذا ممتنع كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [يأتي (ص332). ]، ولكن يقصد بها أمران، هما: وقول الله عز وجل: 1- إكرام الشافع. 2- نفع المشفوع له. والشفاعة لغة: اسم من شفع يشفع، إذا جعل الشيء اثنين، والشفع ضد الوتر، قال الله تعالى: {والشفع والوتر} [الفجر: 3]. واصطلاحا: التوسط للغير بجلب منفعة أودفع مضرة. مثال جلب المنفعة: شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأهل الجنة بدخولها. مثال دفع المضرة: شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن استحق النار أن لا يدخلها. * * * وذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات: * · الآية الأولي قوله تعالى: {وأنذر به}، الإنذار: هو الإعلام المتضمن للتخويف، أما مجرد الخبر؛ فليس بإنذار، والخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. والضمير في (به) يعود للقرآن؛ كما قال تعالى: وقوله: والحشر: الجمع، وقد ضمن هنا معنى الضم والانتهاء؛ فمعنى يحشرون؛ أي يجمعون حتى ينتهوا إلى الله. قوله: وقوله: (ولا يشفع)؛ أي: شافع يتوسط لهم، وهذا محل الشاهد. ففي هذه الآية نفي الشفاعة من دون الله، أي من دون إذنه، ومفهومها: أنها ثابتة بإذنه، وهذا هو المقصود؛ الشفاعة من دونه مستحيله، وبإذنه جائزة وممكنة. أما عند الملوك؛ فجائزة بإذنهم وبغير إذنهم، فيمكن لمن كان قريبا من السلطان أن يشفع بدون أن يستأذن. ويفيد قوله: (من دونه) أن لهم بإذنه وليا وشفيعا؛ كما قال تعالى: الآية الثانية قوله تعالى: {لله الشفاعة}، مبتدأ وخبر، وقدم الخبر للحصر، والمعنى: لله وحده الشفاعة كلها، لا يوجد شيء منها خارج عن إذن الله وإرادته؛ فأفادت الآية في قوله: (جميعا) أن هناك أنواع للشفاعة. وقد قسم أهل العلم رحمهم الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين، هما: القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي أنواع: النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله؛ فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه، فيقول بعضهم لبعض: اطلبوا من يشفع لنا عند الله، فيذهبون إلى آدم أبي البشر، فيذكرون من أوصافه التي ميزه الله بها: أن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيقولون: اشفع لنا عند ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟!فيعتذر لأنه عصى الله بأكله من الشجرة، ومعلوم أن الشافع إذا كان عنده شيء يخدش كرامته عند المشفوع إليه؛ فإنه لا يشفع لخجله من ذلك، مع أن آدم عليه السلام قد تاب الله عليه واجتباه وهداه، قال الله تعالى: ثم يذهبون إلى نوح، ويذكرون من أوصافه التي امتاز بها بإنه أول رسول إرسله الله الأرض، فيعتذر بأنه سأل الله ما ليس له به علم حين قال: ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع؛ فلا يعتذر بشيء، لكن يحيل إلى من هوأعلى مقاما، فيقول: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيحيلهم إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون أن يذكر عذرا يحول بينه وبين الشفاعة [البخاري: كتاب التفسير /باب (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبد شكورا)، ومسلم: كتاب الإيمان /باب أدنى أهل الجنة منزلة.]، فيأتون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيشفع إلى الله ليريح أهل الموقف. الثاني: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها؛ لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة، فيطلبون من يشفع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها، ويشير إلى قوله تعالى: الثالث: شفاعتة ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب [البخاري: كتاب الفضائل / باب قصة أبي طالب، ومسلم: كتاب الإيمان / باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب. ]، وهذه مستثناه من قوله تعالى: القسم الثاني: الشفاعة العامة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولجميع المؤمنين. وهي أنواع: النوع الأول: الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وهذه قد يستدل لها بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا؛ إلا شفعهم الله فيه) [مسلم: كتاب الجنائز / باب من صلى عليه أربعون]؛ فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك. النوع الثاني: الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وقد تواترت بها الأحاديث وأجمع عليها الصحابة، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين، وهما: المعتزلة والخوارج؛ فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقا لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ومن يستحق الخلود؛ فلا تنفع فيه الشفاعة، فهم ينكرون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلون النار، أو إذا دخلوها أن يخرجوا منها، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع. النوع الثالث: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أبي سلمة: (اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه) [مسلم: كتاب الجنائز /باب في إغماض الميت] ، والدعاء شفاعة؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا؛ إلا شفعهم الله فيه). * · إشكال وجوابه: فإن قيل: إن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه؛ فكيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة وهو لم يستأذن من ربه؟ والجواب: إن الله أمر بأن يدعوالإنسان لأخيه الميت، وأمره بالدعاء إذن وزيادة. وأما الشفاعة الموهومة التي يظنها عباد الأصنام من معبودتهم؛ فهي شفاعة باطلة لأن الله لا يأذن لأحد بالشفاعة إلا من ارتضاه من الشفعاء والمشفوع لهم. إذا قوله: ]. * * * وقوله: الآية الثالثة قوله تعالى: (من ذا الذي)، (من): اسم استفهام بمعنى النفي؛ أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه. (ذا): هل تجعل ذا اسما موصولا كما قال ابن مالك في (الألفية)، أولا تصح أن تكون اسما موصولا هنا لوجود الاسم الموصول (الذي)؟ الثاني هو الأقرب، وإن كان بعض المعربين قال: يجوز أن تكون (الذي) توكيدا لها. والصحيح أن (ذا) هنا إما مركبة مع (من)، أوزائدة للتوكيد، وأيا كان الإعراب؛ فالمعنى: أنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله. وسبق أن النفي إذا جاء في سياق الاستفهام؛ فإنه يكون مضمنا معنى التحدي، أي إذا كان أحد يشفع بغير إذن الله فأت به. قوله: (عنده)، ظرف مكان، وهوسبحانه في العلو؛ فلا يشفع أحد عنده ولوكان مقربا؛ كالملائكة المقربين؛ إلا بإذنه الكوني، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا . وأفادت الآية: أنه يشترط للشفاعة إذن الله فيها لكمال سلطانه جل وعلا، فإنه كلما كمل سلطان الملك؛ فإنه لا أحد يتكلم عنده ولوكان بخير إلا بعد إذنه، ولذلك يعتبر اللغط في مجلس الكبير إهانة له ودليلا على أنه ليس كبيرا في نفوس من عنده، كان الصحابة مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار وعدم الكلام إلا إذا فتح اكلام؛ فإنهم يتكلمون. * * * وقوله: * الآية الرابعة قوله تعالى: (كم) خبرية للتكثير، والمعنى: ما أكثر الملائكة الذين في السماء، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بعد إذن الله ورضاه. قوله: 1- 1- الإذن من الله؛ لقوله: 2- 2- رضاه عن الشافع والمشفوع له؛ لقوله: {ويرضي}، وكما قال تعالى: وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى، قال تعالى بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه: ثم قال: وقوله: فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلولا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى ورضاه؛ فكيف باللات والعزى وهي في الأرض؟! ولهذا قال: * * * * · الآية الخامسة قوله تعالى: {قل ادعوا}. الأمر في قوله: {ادعوا} للتحدي والتعجيز، وقوله: {ادعوا} يحتمل معنيين، هما: 1- 1- أحضروهم. 2- ادعوهم دعاء مسألة. فلودعوهم دعاء مسألة لا يستجيبون لهم؛ كما قال تعالى: يكفرون: يتبرؤون، ومع هذه الآيات العظيمة يذهب بعض الناس يشرك بالله ويستنجد بغير الله، وكذلك لودعوهم دعاء حضور لم يحضروا، ولو حضروا ما انتفعوا بحضورهم. قوله: قوله: (مثقال ذرة)، وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه، والمقصود بذكر الذرة المبالغة، وإذا قصد المبالغة بالشيء قلة أوكثرة؛ فلا مفهوم له؛ فالمراد الحكم العام؛ فمثلا قوله تعالى: ولا يرد على هذا أن الله اثبت ملكا للإنسان؛ لأن ملك الإنسان قاصر وغير شامل ومتجدد وزائل، وليس كملك الله. قوله: (فيهما)؛ أي: في السماوات والأرض. (من شرك)؛ أي: مشاركة، أي لا يملكون انفرادا ولا مشاركة. قوله: (من شرك): مبتدأ مؤخر دخلت عليه (من) الزائدة لفظا، لكنها للتوكيد معنى. وكل زيادة في القرآن؛ فهي زيادة في المعنى. وأتت (من) للمبالغة في النفي، وأنه ليس هناك شرك لا قليل ولا كثير. قوله: و(من): حرف جر زائد، و(ظهير): مبتدأ مؤخر بمعنى معين؛ كما قال الله تعالى: فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة؛ لم يبق إلا الشفاعة، وقد أبطلها الله بقوله: قال أبو العباس: (نفي الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفي أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أويكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب؛ كما قال: وقوله: {إلينا ترجعون}، أي: وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون، فنجازيكم إذا كان هذا هوحسبانكم؛ فهو حسبان باطل. * * *
|