الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
الفناء لغة: الزوال . قال الله تعالى: : {كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26: 27]. وفي الاصطلاح ثلاثة أقسام: القسم الأول: ديني شرعي وهو الفناء عن إرادة السوى. أي: عن إرادة ما سوى الله عز وجل بحيث يفنى بالإخلاص لله عن الشرك، وبشريعته عن البدعة، وبطاعته عن معصيته، وبالتوكل عليه عن التعلق بغيره، وبمراد ربه عن مراد نفسه إلى غير ذلك مما يشتغل به من مرضاة الله عما سواه. وحقيقته: انشغال العبد بما يقربه إلى الله عز وجل عما لا يقربه إليه وإن سمي فناء في اصطلاحهم. وهذا فناء شرعي به جاءت الرسل، ونزلت الكتب، وبه قيام الدين والدنيا، وصلاح الآخرة والدنيا قال الله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا} [الإسراء: 19]. وقال: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقال: {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار} [الرعد: 22]. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك الخاسرون} [المنافقون: 9]. وهذا هو الذوق الإيماني الحقيقي الذي لا يعادله ذوق ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولًا ). القسم الثاني: صوفي بدعي وهو: الفناء عن شهود السوى أي عن شهود ما سوى الله تعالى: وذلك أنه بما ورد على قلبه من التعلق بالله عز وجل وضعفه عن تحمل هذا الوارد ومقاومته غاب عن قلبه كل ما سوى الله عز وجل ففني بهذه الغيبوبة عن شهود ما سواه، ففني بالمعبود عن العبادة وبالمذكور عن الذكر، حتى صار لا يدري أهو في عبادة وذكر أم لا، لأنه غائب عن ذلك بالمعبود والمذكور لقوة سيطرة الوارد على قلبه. وهذا فناء يحصل لبعض أرباب السلوك، وهو فناء ناقص من وجوه: الأول: أنه دليل على ضعف قلب الفاني، وأنه لم يستطع الجمع بين شهود المعبود والعبادة، والآمر والمأمور به، واعتقد أنه إذا شاهد العبادة والأمر اشتغل به عن المعبود والآمر، بل إذا ذكر العبادة والذكر كان ذلك اشتغالًا عن المعبود والمذكور. الثاني: أنه يصل بصاحبه إلى حال تشبه حال المجانين والسكارى حتى إنه ليصدر عنه من الشطحات القولية والفعلية المخالفة للشرع ما يعلم هو وغيره غلطه فيها كقول بعضهم في هذه الحال: "سبحاني.. سبحاني أنا الله. ما في الجبة إلا الله أنصب خيمتي على جهنم" ونحو ذلك من الهذيان والشطح. الثالث: أن هذا الفناء لم يقع من المخلصين الكمل من عباد الله فلم يحصل للرسل، ولا للأنبياء، ولا للصديقين والشهداء. فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى ليلة المعراج من آيات الله اليقينية ما لم يقع لأحد من البشر وفي هذه الحال كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غاية من الثبات في قواه الظاهرة والباطنة كما قال الله تعالى: عن قواه الظاهرة: {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17]. وقال عن قواه الباطنة: {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم: 11]. وهاهم الخلفاء الراشدون أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أفضل البشر بعد الأنبياء وسادات أوليائهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء، وها هم سائر الصحابة مع علو مقامهم وكمال أحوالهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء. وإنما حدث هذا في عصر التابعين فوقع منه من بعض العباد والنساك ما وقع، فكان منهم من يصرخ، ومنهم من يصعق، ومنهم من يموت، وعرف هذا كثيرًا في بعض مشايخ الصوفية. ومن جعل هذا نهاية السالكين فقد ضل ضلالًا مبينًا، ومن جعله من لوازم السير إلى الله فقد أخطأ. وحقيقته: أنه من العوارض التي تعرض لبعض السالكين لقوة الوارد على قلوبهم وضعفها عن مقاومته، وعن الجمع بين شهود العبادة والمعبود ونحو ذلك. القسم الثالث: فناء إلحادي كفري وهو: الفناء عن وجود السوى. أي: عن وجود ما سوى الله عز وجل، بحيث يرى أن الخالق عين المخلوق، وأن الموجود عين الموجد، وليس ثمة رب ومربوب، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود وآمر ومأمور، بل الكل شيء واحد وعين واحدة. وهذا فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود كابن عربي، والتلمساني وابن سبعين، والقونوي ونحوهم.. وهؤلاء أكفر من النصارى من وجهين: أحدهما: أن هؤلاء جعلوا الرب الخالق عين المربوب المخلوق وأولئك النصارى جعلوا الرب متحدًا بعبده الذي اصطفاه بعد أن كانا غير متحدين. الثاني: أن هؤلاء جعلوا اتحاد الرب ساريًا في كل شيء في الكلاب والخنازير والأقذار، والأوساخ، وأولئك النصارى خصوه بمن عظموه كالمسيح. وتصور هذا القول كاف في رده، إذ مقتضاه: أن الرب والعبد شيء واحد، والآكل والمأكول شيء واحد، والناكح والمنكوح شيء واحد، والخصم والقاضي شيء واحد، والمشهود له وعليه والشاهد شيء واحد، وهذا غاية ما يكون من السفه والضلال. قال الشيخ رحمه الله: ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه ويدعي أنه الله رب العالمين فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوءها الذي تفترشه. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: في النونية عن هذه الطائفة: فالقوم ما صانوه عن إنس ولا ** جن ولا شجر ولا حيوان لكنه المطعوم والملبوس والـ ** مشموم والمسموع بالآذان وكذاك قالوا إنه المنكوح والـ ** مذبوح بل عين الغوي الزاني إلى أن قال: هذا هو المعبود عندهم فقل ** سبحانك اللهم ذا السبحان يا أمة معبودها موطوؤها ** أين الإله وثغره الطعان يا أمة قد صار من كفرانها ** جزءًا يسيرًا جملة الكفران
|