الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان
.فَصْل فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الغِشّ: اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهُ وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ وَإِنْكَارُهُ، الغِشُّ وَالخِدَاعُ فِي المُعَامَلاتِ فَإِنَّ الإِسْلامَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ بِكُلِّ صُورَةٍ، فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَفِي سَائِرِ أَنْوَاعِ المُعَامَلاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَالمُسْلِمُ مُطَالَبُ بِالتْزَامِ الصَّدْقِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِ، وَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَغْلا مِنْ كُلِّ كَسْبٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِِّينُ النَّصِيحَةُ».وَقَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «الْبَيْعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» وَمَرَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَعْجَبَهُ ظَاهِرُهُ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، فَرَأَى بَلَلاً فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبُ الطَّعَامِ؟» قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ أي المطر، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».وَفِي رِوَايِةٍ: أَنَّهُ مَرَّ بِطَعَامٍ وَقَدْ حَسَّنَهُ صَاحِبُهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ، فَإِذَا طَعَامُ رَدِيءٌ، فَقَالَ: «بِعْ هَذَا عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا عَلَى حِدَةٍ مَنْ غَشَّنَا فَلَيَْسَ مِنَّا».فَانْظُرْ بِمَاذَا حَكَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ غَشَّ فِي الطَّعَامِ، وَالطَّعَامُ مَادَةً يَنْقَضِي أَثَرُهَا بِسُرْعَةٍ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَالإِيمَانُ الصَّحِيحُ الكَامِلُ يَقْتَضِي الصِّدْقَ وَالإِخْلاصَ، وَالتَّقْوَى وَالنُّصْحَ، وَأَنْ يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.فَإِذَا سَأَلَكَ إِنْسَانٌ مُؤْمِنٌ عَنْ حَالِ رَجُلٍ وَأَخْلاقِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَدِينِهِ، فَأَجَبْتَهُ بِغَيْرِ مَا تَعْرِفُ وَتَعْلَمُ، كَأَنْ كَانَ فَاسِقًا فَقُلْتُ: إِنَّهُ صَالِحٌ، أَوْ كَانَ صَالِحًا فَقُلْتَ: إِنَّهُ مِنَ المُفْسِدِينَ، فَقَدْ غَشَشْتَهُ. وَفِي الحَدِيثِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، وَإِذَا سَأَلَكَ أَخُوكَ المُؤْمِنُ عَنِ امْرَأَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، تَعْرِفُهَا وَتَعْلَمُ صِفَاتِهَا، وَأَخْلاقِهَا وَأَهْلِهَا، فَلَمْ تَصْدِقُهُ الحَقِيقَةِ، وَلَمْ تَذْكُرْ لَهُ الحَقَّ الذِي تَعْرِفُهُ، فَقُلْتَ لَهُ: إِنَّ شَكْلَهَا جَمِيلٌ، وَهِيَ قَبِيحَةٌ ذَمِيمَةٌ، أَوْ قُلْتَ لَهُ: ذَمِيمَةٌ، وَهِيَ جَمِيلَةٌ، أَوْ أَجْبَتَهُ أَنَّ أَخْلاقَهَا وَسِيَرَتَهَا غَيْرُ حَمِيدَةٍ وَالأمْرُ بِخَلافِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَذَبْتَ وَغَشَشْتَ وَكُنْتَ مِنَ الخَائِنِينَ وَإِذَا سَأَلَكَ أَخُوكَ عَنْ تَاِجرٍ وَمُعَامَلَتِهِ لِلنَّاسِ فَقُلْتَ غَيْرَ الحَقِّ، وَعميَّت عَلَيْهِ أَمْرَهُ فَمَدَحْتَهُ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ بِذَلِكَ جَمْعَتَ بَيْنَ الغِشِّ وَالكَذِبِ.وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الغِشِّ لِلنَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالمُجْتَمَعِ الإِسْلامِي الإِتْيَانُ بِكُفَارِ خَدَّامِين أَوْ سَوَّاقِينَ أَوْ طَبَّاخِينَ أَوْ خَيَّاطِينَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللهِ وَرَسُلِهِ وَالْمُؤْمِنين وَلا يَألُون جُهْدًا عَنِ السعي فِي ضَرَرِ الإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَيَجِبْ الْبُعْدِ عَنْهُمْ مَهْمَا أَمْكَنَ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.آخر: آخر: وَمَحَلِّ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِذَا كَانَ السَّائِلُ لَهُ مَصْلَحَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ يَسْأَلُكَ عَنْهُمْ، فَيَلْزِمُكَ دِيَانَةً وَإِنْسَانِيَّةً أَنْ تَصْدِقَهُ الْخَبَرَ، وَأَنْ تَبْذِلَ لَهُ النَّصِيحَةِ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تَعَالى، أَمَّا إِذَا كَانَ السَّائِلُ مِنَ الذِينَ يَبْحَثُونَ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَيَتْبَعُونَ عَوْرَاتِهِمْ وَهَفْوَاتِهِمْ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ، وَالْقَدْحِ في أَعْرَاضِهِمْ وَتَنَقُّصِهِمْ فَلْيَكُنْ جَوَابَكَ لَهُ عَلَى كُلِّ سُؤَالٍ، قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ». وَقُلْ لَهُ: الأَوْلَى بِكَ أَنْ تُفَتِّشَ عَلَى نَفْسِكَ وَعُيُوبِهَا، وَتَسْعَى فِي إِصْلاحِهَا وَاحْذَرْ أَنْ تَتَّصِفَ بِمَا قال الشاعر: وَاعْمَلْ بِمَا قَالَ الآخر: وَإِذَا كَانَ الْغِشُّ- وَهُوَ تَقْدِيمُ الْبَاطِلِ فِي ثَوْبٍ مِنَ الْحَقِّ- يَكُونُ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ، وَالْفَتْوَى وَالإِرْشَادِ، وَالتَّوْجِيهِ وَالْوَظِيفَةِ، فَإِنَّ غِشَّ الطَّعَامِ فِي الإِفْسَادِ أَقَلُّ بِدَرَجَاتٍ مِنْ الغِشِّ فِي هَذِهِ النَّوَاحِي، الْمُمْتَدُ أَثَرُهَا الشَّامِلُ ضَرَرُهَا، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ السَّلَفُ يَفْهَمُونَ مَدَى ضَرَرِ الغِشِّ، وَيُطَبِّقُونَ أَحَادِيثَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يُبَيِّنُونَ مَا فِي الْمَبِيعِ مِنْ عَيْبٍ وَلا يَكْتُمُونَ، وَيَصْدُقُونَ وَلا يَكْذِبُونَ، وَيَنْصَحُونَ وَلا يَغُشُّونَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَحِلُّ لامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ بِهَا دَاءً إِلا أَخْبَرَ بِهِ».وَبَاعَ ابنُ سِيرِينَ شَاةً، فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: أَبْرَأُ إليك مِنْ عَيْبٍ فِيهَا، إِنَّهَا تَقَلِبُ العَلَفَ بِرِجْلِهَا، وَبَاعَ الْحَسَنُ بن صَالِحٍ جَارِيَةً فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: إِنَّهَا مَرَّةً عِنْدَنَا تَنَخَّمَتْ دَمًا، وَمَعَ هَذَا يَأْبَى ضَمِيرُ الْمُؤْمِنِ إِلا أَنْ يَذْكُرَ الْعَيْبَ وَإِنْ نَقَصَ الثَّمَنُ، وَتَتَأكَّدَ الْحُرْمَةُ إِذَا قَوَّى غِشَّهُ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلِفُ مَنْفَعَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ». اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَأَكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.فَصْلٌ:عِبَادَ اللهِ قَدْ أَصْبَحِ الغِشُّ عِنْدَ كَثِيرٍ منَ الباَعَةِ رُكْنًا وَيَنْذُرُ وُجُودُ بَائِعٍ غَيْرِ غَاشٍ، فَيَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الذِي سَادَ فِيهِ الْغِشُّ وَعَمَّ وَطَمَّ، وَقَلَّ فِيهِ الرَّدْعُ، وَالضَّرْبُ عَلَى أَيْدِي الْغَشَّاشِينَ، أَنْ يَتَحَفَّظَ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ مِن تَحَفُّظٍ، وَيَنْتَبِهِ كُلَّ الانْتِبَاهِ لِكَلامِهِمْ، وَحَرَكَاتِهِمْ، وَسَكَنَاتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُرِقَ وَهُوَ لا يَشْعُرُ.وَلِهَذَا تَجِدْ رِجَالاً يُقْبِلُونَ عَلَى الْبَاعَةِ، وَهُمْ قَلِيلُوا الْخِبْرَةَ، سَرِيعُوا التَّصْدِيقِ لِمَا يُقَالُ لَهُمْ، فَيَلْعَبُ بِهِمْ هَؤُلاءِ الْغَشَّاشُونَ وَيَسْتَغِلُّونَ سَذَاجَتَهُمْ فِي كَسْبٍ مُضَاعَفٍ، أَوْ تَغْطِيَةِ عَيْبٍ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَبُرَتْ خِيَانَةٌ أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ، وَأَنْتَ لَهُ كَاذِبٌ».وَلَعَلَّكَ فَهِمْتَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْغِشَّ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي السُّوقِ بَلْ يَقَعُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُ فِي السُّوقِ، لأَنَّهُ مَحَلُّ الأَخْذِ وَالإِعْطَاءِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْعُقُودِ غَالبًا، الْمُهِمُّ أَنَّكَ تَتَحَفَّظْ مِنْ هَؤُلاءِ الْغَشَّاشِينَ السُّرَاقِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا سُرَّاقًا لأَنَّ السِّرْقَةَ الأَخْذُ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْغَشَّاشِ.تَذْهَب إِلى الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ، أَوْ مَا يَجْعَلُ فِي أَحَدِهِمَا، فَتَجِدُ أَعْلاهُ نَظِيفًا مُنَقَّىً، تَشْتَاقُ إِلى شِرَائِهِ، وَعِنْدَمَا تَأْخُذُهُ وَتُسَلِّمُ الْفُلُوسِ، وَتَنْظُرُ إليه بِدَقَّةٍ تَجِدْهُ مُخْتَلِفًا عَمَّا نَظَرْتَ إليه أَوَّلاً، بِرَدَاءَةٍ، وَإِنْ ذَهَبْتَ إِلى بَاعَةِ الْمَلابِسِ قَدَّمَ لَكَ الْبَائِعُ ثَوْبًا رَدِيئًا بِاسْمِ أَجْوَدِ الْمَلابِسَ، وَيُعْلِمُكَ بِثَمَنٍ زَائِدٍ جِدًّا عَنْ ثَمَنِهِ الْحَقِيقِي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنْتَبِهًا وَصَدَّقْتَ الْبَائِعِ كُنْتَ مَسْرُوقًا بِذَلِكَ الْفَرْقِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ نَاقَشْتَهُ الْقَوْلَ عَاجَلَكَ بَأَغْلَظِ الأَيْمَانِ بَأَنَّهُ يَنْتَقِي لَكَ الْجَيِّدِ لِيَخْدِمَكَ وَلِتَتَعَرَّفْ بِمَحَلِّهِ لِتَكُونَ زَبُونًا لَهُ، حَتَّى رُبَّمَا لا تَشُكُّ فِي أَنَّهُ صَادِقٌ مِنْ كَثْرَةِ الأَيْمَانِ التِي لَفَظَهَا فُوهُ، وَسَوَّدَ بِهَا صَحِيفَتَهُ، وَإِذَا أَتَيْتَ إِلى تَاجِرِ الدَّقِيقِ حَلَفَ لَكَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ البُرِّ، وَهُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَبُرٍّ مُنْخِشِ، قَدْ أَكَلَ الدُّودُ لُبَّهُ، أَلا يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلا شَاهِدٌ رَقِيبٌ، وَأَنَّهُ أَعَدَّ لأَمْثَاله مِنْ الْغَشَّاشِينَ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إليه، وَتَاجِرُ الْمَاشِيَةِ تَجِدُ حَوْلَهُ لَفِيفًا مِن النَّجَاشِينَ الذِينَ يَكْتَنِفُونَ الْمُشْتَرِي مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَهَذَا يَزِيدُ كَاذِبًا، وَذَاكَ يَحْلِفُ آثِمًا، إِلى أَنْ يَقَعَ فِي الشِّرْكِ الْمِسْكِينُ، إِذَا كَانَ شَارِيًا، أَمَّا إِذَا كَانَ بَائِعًا زَهُّدُوْهُ فِيمَا يُرِيدُ بَيْعَهُ، وَأَحَاطُوَا بِهِ وَكُلٌّ يُرذِّلُ سِلْعَتَهُ مِنْ جِهَةٍ، إِلى أَنْ تَسْقُطَ مِنْ عَيْنِ صَاحِبِهَا فَيبِيعُهَا لَهُمْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ.وَإِذَا أَتَيْتَ إِلى بَائِعٍ الْخُضَرِ وَجَدْتَ الأَعَلا زَيْنًا وَالوَسَطَ فَاسِدًا مُمَرِّضًا لِلْبَدَنِ، وَتَدْخُلُ إِلى مَنْ عِنْدَهُ السَّمْنُ وَالزُّبْدُ وَالْعَسَلُ فَيَبِيعَكَ بِاسْمِ الْجَيِّدِ، وَإِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَهْلَ الصِّنْفِ قَالُوا لَكَ: هَذَا غَيْرُ الذِي تُرِيدُ، أَوْ مَخْلُوطًا مَعَهُ غَيْرُهُ. ومثله القهوة المحموسة يخلِطُونَ مَعَهَا غَيْرَهَا.وَإِذَا ذَهَبْتَ إِلى مَبِيعِ السَّيَّارَاتِ رَأَيْتَ مَا يُزْعِجُكَ وَيُشَتِّتُ ذِهْنَكَ مِنْ كُثْرَةِ النَّجَاشِينَ وَالغَشَّاشِينَ الْمُعَمِّينَ لِلْعُيُوبِ الذِينَ قَدْ مَهَرُوا فِي الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالْمَلْقِ وَالنِّفَاقِ.وَإِذَا أَتَيْتَ أَهْلَ الأَوَانِي وَالْغَضَارِ وَالصَّنَادِيقِ وَجَدْتَ الأَصْبَاغَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِتَغْطِيَةِ الْعَيْبِ عن الْمُشْتَرِي.وَإِذَا ذَهَبْتَ إِلى أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ وَجَدْتَ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ الْغِشِّ وَإخْلافِ الْوَعْدِ الشِّيْءَ الْكَثِيرَ، وَلا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ نَجَّارِ وَحَدَّادِ، وَخَيَّاطٍ وَصَبَّاغٍ، وَصَائِغٍ وَطَبَّاخٍ، وَسَبَّاكٍ وَبَنَّاءٍ، وَنَقَّاشٍ وَخَزَّارُ، وَسَاعَاتِي وَحَبَّاكٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، كُلُّهُمْ فِي حِرْصٍ تَامٍ عَلَى أَخْذِ الْفُلُوسِ، وَلَوْ بِلا عَمَل يُقَابِلُهُ. فَانْتَبِه لَهُمْ.وَإِنْ ذَهَبْتَ إِلى بَائِعِي مَوَادِّ الْبِنَاءِ وَجَدْتَ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ أَلْوَانِ الْغِشِّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ.وَبِهَذَا صَارَ جَوُّ التِّجَارَةِ، الْمِهْنَةِ الشَّرِيفَةِ، التِي لَوْ صَدَقَ صَاحِبُهَا لَحَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ جَوًّا وَبِيئًا، مُشْبَعًا بِالْكَذِبِ واَلأَيْمَانِ الآثِمَةِ، مَلِيئًا بِالتَّغْرِيرِ، وَالْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ، وَإِخْفَاءِ الْعُيُوبِ، وَمَا إِلى ذَلِكَ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ بَاقِي أَهْلِ الأَعْمَالِ وَالصَّنَائِعِ، وَالْمُقَاوِلِينَ وَغَيْرَهُمْ وَمِنْ أَلْوَانِ الْغِشِّ تَطْفِيفُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ اهْتَمَّ الْقُرْآنُ بِهَذَا الْجَانِبِ مِنْ الْمُعَامَلَةِ، وَجَعَلَهُ مِنْ وَصَايَاهُ الْعَشْرِ فِي آخِرِ سُورَةِ الأَنْعَامِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، وَقَالَ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}، وَقَالَ تَعَالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.وَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلامُ يَدْعُو قَوْمَهُ أَوَّلاً إِلى تَوْحِيدِ اللهِ، وَيُتْبِعُهُ بِالنَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالُ وَالْمِيزَانِ مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا، قَالَ تَعَالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَرِزْقًا وَاسِعًا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَإِيمَانًا خَالِصًا، وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ، وَخُشُوعِ الْمُخْبِتِينَ، وَأَعْمَالِ الصَّالِحِينَ، وَيَقِينِ الصَّادِقِينَ، وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ، وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ، يَا أَفْضَلْ مَنْ رُجِيَ وَقُصِدَ، وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. .فصل في أن انتقاص الحقوق أساس لزعزعة الثقة في المجتمع: وَاعْلَمْ أَنَّ انْتِقَاصَ الْحُقُوقِ عَلَى أَيّ طَرِيقِ كَانَ أَسَاسٌ كَبِيرٌ لِزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ فِي الْمُجْتَمِعِ، وَسَبِيلٌ إِلى قَطْعِ الصَّلاتَ وَإِثَارَةِ الأَحْقَادِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ يَنْتَشِرُ الْفَسَادُ فِي الأَرْضِ، وَتَضِيعُ الْمَصَالِحُ، فَالْقِصَّةُ يُفْهَمُ مِنْهَا- كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ- أَنَّ الْهَدَفَ هُو اقْتِلاعُ الْخَلْقِ الذِي يَدْفَعُ الإِنْسَانِ إِلى انْتِقَاصِ الْحُقُوقِ، وَالْكَيْدِ لأَصْحَابِهَا عَن طَرِيقِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ، وَعَنْ طَرِيقِ تَسْخِيرِ الْمَنَافِعِ الْعَامَةِ، وَحُقُوقِ النَّاسِ، فِي سَبِيلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ اِلْخَاصَةِ، وَهَذَا هُوَ الذِي يَعْقِبُ حَقًّا الإِفْسَادَ فِي الأَرْضِ، وَزَلْزَلَةَ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ عَلَى أَصْحَابِهَا.قَالَ: وَمِنْ هُنَا يَجْدُرُ بِالْمُوَظِّفِ وَالْكُتَّابِ وَالْمُوَجِّهِ وَالْمُشِير وَالْمُعَلِّمِ أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَخْصِيصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ فِي رِسَالَةِ شُعَيْبٍ، وَقَرْنِهَما بِعِبَادَةِ اللهِ، وَاعْتِبَارِ انْتِقَاصِهِمَا إِفْسَادًا فِي الأَرْضِ- يُجْدُرُ بِهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ عِظَةً، وَأَجْدَى عِبْرَةً، وَإِنَّ انْتِقَاصَ الْكَيْل وَالْمِيزَانِ- فِيمَا وَرَاءَ السِّلَعِ الْمَادِيَّةِ- لأَشَدُّ خَطَرًا، وَأَقْبَحُ أَثَرًا، وَأَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ انْتِقَاصِ حَفْنَةٍ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ أَوْقِيَةٍ مِنْ رَطْلٍ.إِنَّ مِنْ حَقِّ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِحَقِّهِ كَامِلاً غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِن عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنْ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَيُعَاوِنَه فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ إِذَا اسْتَرْشَدَهُ، وَأَنْ يَمْحَضَهُ النَّصْحَ إِذَا اسْتَنْصَحَهُ، وَأَنْ يَفِي لَهُ إِذَا عَاهَدَهُ، وَأَنْ يُصَدَقُهُ إِذَا حَدَّثَهُ أَوْ وَعَدَهُ، إِنَّها مُبَادَلَةُ وَلَكِنْ لَيْسَتْ فِي السِّلَعِ وَلا فِي الطَّعَامِ، وَلا فِي الشَّرَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْخَلْقِ وَالْمُرُوءَةِ وَالصِّدْقُ وَالإِيمَان، وَالانْحِرَافٌ فِيهَا عَنْ مُقَابَلَةِ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ، تَطْفِيفٌ فِي الْكَيْلِ، وَانْتِقَاصٌ لِلْحُقُوقِ.وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ عَلامَةً مِنْ عَلامَاتِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَأَنْزَلَ فِي شَأْنِهِ سُورَة كاملة، هي سورة اسْتَهْلَها بِقَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. انتهى.وَلَقْدَ صَارَ الْغِشُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى اللَّبَنَ فِي ضَرْعِ الْحَيَوَانِ وَحَتَّى فِي الشُّعُورِ، جَعَلُوا يَصْبُغُونَها بِالسَّوَادِ غِشًّا وَتَدْلِيسًا.آخر: آخر: آخر: آخر: آخر: آخر: آخر: آخر: آخر: آخر: آخر: وبالتالي فَإِنَّ الْغِشَّ مَعْصِيَةٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَأَنَّهُ لا يَفِيدُ صَاحِبَهُ إِلا الْوَزْرَ، وَالْخِزْيَ الْعَاجِلَ وَالآجِلَ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَالْعَارْ.ثَالِثًا: أَنَّ الْغِشَّ يُضَيِّعُ الثِّقَةَ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَجْلِبُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ، وَأَنَّهُ حَجَرٌ فِي طَرِيق تَقَدُّمِ صَاحِبِ الْعَمَلِ، وَأَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفوُهُ بِذَلِكَ انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَأُغَِْقَ فِي وَجْهِهِ أَبْوَابُ الرِّبْحِ.وَمِنْ جِنَايَاتِ الْغِشِّ عَلَى صَاحِبِه أَنَّ الْبَرَكَةَ تَذْهَبُ مِن عَمَلِ يَدَيْهِ، وَرُبَّمَا دَارَتْ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الدَّوَاِئرْ.وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْسَ صَاحِبِه خَبِيثَةٌ طَاغِيَةٌ.وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبُه يُعْتبَرُ مِمَّنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبِه مَا عِنْدَهُ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ لإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ مَا يُحِبُّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّه سَبَبٌ لِقَطْعِ الصِّلاتِ، وَزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لإِثَارَةِ الأَحْقَادِ وَالْبضُْغضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِنَشْرِ الْفَسَادِ وَتَضْيِيع الْمَصَالِحِ.وَأَنَّهُ مَانِعٌ لِلإِنْسَانِ مِنْ تَمَتُّعِهِ بِحَقِّهِ كَامِلاً، وَأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ، مِنْ أَنَّهُ يُمَكِّنُ أَخَاهُ مِنْ حَقِّهِ وَيُعَاوِنُهُ فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلنَّصِيحَةِ.وَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ عِدَادِ الْكَذَّابِينَ الْخَوَنَةِ وَالظَّلَمَةِ وَأَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الإِخْلاصِ.وَأَنَّ صَاحِبَهُ يَكُونُ مَرْمُوقًا بَعَيْنِ الاحْتِقَارِ وَالازْدِرَاءِ عَكْسَ الْمُخْلِصِ فِي عَمَلِهِ.وَأَنَّ الْغِشَّ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لا يُزَكِّي وَأَنَّهُ لا يَتَنَسَّخِ مِن الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لأَن مَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَهم يَبْعِد جِدًا أَنْ يُعْطِيهُمْ.وَأَنَّ الْغِشَّ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَالشُّحِ وَالْبُخْلِ وَالْهَلَعِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ بِدَلِيلٍ عَدَمِ اكْتِفَائِهِ بِمَا أَعْطَاهُ اللهِ.وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَعَدَمِ احْتِرَامِهِ لأَحَادِيثِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاكَسَتِهِ لَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا.وَمِنْ جِنَايَاتِ الْغِشِّ أَنَّهُ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي طُولِ الْمَوْقِفِ وَالْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَثْرَةِ الْخُصَمَاءِ الذِينَ أخَذَ أمَوْاَلَهُم بغير حَقٍّ.وَأَنَّهُ سَبَبٌ لإِضَاعَةِ حَسَنَاتِهِ، أَوْ لِحَمْلِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ مِمَّنْ غَشَّهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ لِجَنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْغِشِّ.وَمِنْ مَضَارِّ الْغِشِّ أَنَّ صَاحِبَهُ يُسِيءُ إِلى أَوْلادِهِ وَأُسْرَتِهِ إِذَا اشْتَهَرَ بِهِ، لأَنَّهُ يُلوثُهُمْ بِهَذِهِ السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ، وَالْفَائِهَةِ وَالْقَبِيحَةِ، وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: عَائِلَةُ الْغَشَّاشِ، وَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ أَذِيَّةٍ لِلْمُسْتَقِيمِينَ، وَأَذِيَّةِ الْغَشَّاشِ لأَوْلادِهِ خَاصَّةَ أَشَدُ بِكَثِيرٍ مِنْ أَذَيْتِهِ لِبَاقِي الأُسْرَةِ الْبَعِيدَيْنِ مِنْهُ، لأَنَّ الأَبْنَاءِ حَوْلَ أَبِيهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْهُ، َوْيَنْشَئُونَ عَلَى أَخْلاق أَبِيهِمْ غَالِبًا فَإِنَّهُمْ إِذَا نَشَئُوا عِنْدَهُ لابد أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ طَبَاعِهِ، وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ غَشَّاشِينَ بَعْدَ مَا يَبْلُغُوا مَبْلَغ الرُّجُولَةِ، فَيَكُونَ أَبُوهُمْ سَبَبًا فِي وُقُوعِهِمْ فِي ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَحَرَّجُوا وَلا سَلَكُوا طَرِيقَةَ أَبِيهِمْ بِالْغِشِّ فَمَا مِنْ سَلامَة، يُعَيِّرُهُمُ النَّاسُ وَيَقُولُونُ لَهُمْ: يَا أَوْلادَ الْغَشَّاشِ، وَهَذِهِ أَذِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، تُؤَدِّي إِلى التَّشَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّهَاجُرِ وَتَبَادُلِ السِّبَابِ.وَأَمَّا أَذِيَّةُ الْغَشَّاشِ لِجَمَاعَتِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ فَوَاضِحَةٌ، لأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً، يُسَمُّونَهُمْ قَوْمَ الْغَشَّاشِ، وَجَمَاعَةَ الْغَشَّاشِ، وَالطِّبَاعُ سَرَّاقَةٌ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُ أَصْحَابُهَا وَمِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَيَسْرِي إليهمْ هَذَا الطَّبْعُ وَالْخُلُقُ الذِي هُوَ الْغِشُّ، فَإِنْ لَمُ يُصِبْ الْجَمِيعَ تَأثرَ بِهِ الْبَعْضُ كَالْجَرَبِ.وَبِهَذَا تُنْسَبُ الْجَمَاعَةُ وَالسَّاكِنُونَ فِي بَلَدِهِ إِلى الْغِشِّ، نَظَرًا لِذَلِكَ الْغَشَّاشِ، وَيُقَالُ: بَلَدُ الْغَشَّاشِ، كَمَا يُقَالَ: بِلادُ الْفَرَاعِنَةِ، وَهَذِهِ مُصِيبَةُ عَظِيمَةٌ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيًا.وَأَمَّا ضَرَرُ الْغَشَّاشِ وَأَذِيَّتُهُ لِلدِّينِ، فَيَالَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ فَادِحَةٍ، وَعَقَبَةٍ كَؤُودٍ ضِدَّ الْقَائِمِينَ بِالدَّعْوَةِ إِلى الإِسْلامِ، وَنَشْر مَحَاسِنِهِ، وَالْحَثِّ عَلَى التَّخَلُّقِ بأخْلاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّأدُبِ بِآدَابِهِمْ، لأَنَّ أَعْدَاءَ الإِسْلامِ إِذَا نَظَرُوا إِلى هَؤُلاءِ الْغَشَّاشِينَ، يَرْمُونَ الدِّين الإِسْلامِي بِالنَّقْصِ، وَلا يَقُولُونَ: إِنَّ النَّقْصَ فِي النَّاسِ لِعَدَمِ تَمَسُّكِهِمْ بِالدِّينِ، وَعَدَمِ تَطْبِيقِهِمْ لأَحْكَامِهِ، بَلْ يُلْصِقُونَ النَّقْصَ وَالْعَيْبَ بِالدِّينِ الإِسْلامِي، وَذَلِكَ صَدُّ عَن إتِّبَاعِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ الْغِشِّ مِنَ الأَضْرَارِ وَالأَذَايَا، اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ خَشْيَةَ الإِطَالَةِ، وَإِلا هُوَ يَسْتَدْعِي مُصَنَّفًا وَحْدَهُ.وبالتالي فَمَا الدَّاعِي إِلى ذَلِكَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ؟ أَهُوَ الْقُوتُ الذِي تَكَفَّلَ بِهِ الْحَيِّ الذِي لا يَمُوت. وَمَا رَأَيْنَا تَقِيًّا مَاتَ جَوْعًا، أَوْ مُؤْمِنًا وَرِعًا قَضَى غَرْثَانًا طَاوِيًا، أَمْ هُوَ الْجَشَعُ وَالطَّمَعُ، وَشَرَهُ النُّفُوسِ فِي جَمْعِ الْحُطَامِ الْفَانِي؟ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُجَاهَدَةِ النُّفُوسِ، وَتَقْوِيمِهَا حَتَّى تَرْعَوِي وَتَسْتَقِيمَ، أَمْ إِنَّ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي قَدْ ارْتَكَبَ مِنْ الْوِزْرِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ.أَيُّهَا التُّجار مَا هَكَذَا يَكُونُ الرِّبْحُ، وَمَا هَكَذَا يَكُونُ الْمَكْسَبُ وَمَا بِتَلْكَ الأَسَاليبَ تَتَكَوَّنُ الثَّرْوَةِ وَيَجْمَعُ الْمَالُ، وَلَكِنَّ بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالذِّمَّةِ وَالشَّرَفِ، وَالْعِفَّةِ عن الْحَرَامِ، فَكِّرُوا فِي مَصِيرِ مَا أَتْعَبْتُمْ نُفُوسَكُمْ وَأَبْدَانَكُمْ فِي جَمْعِهِ، وَفَكَّرُوا فِي الْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، وَأَنَّكُمْ مُفَارِقُوهُ عَنْ قَرِيبٍ رَغَمَ أُنُوفِكُمُ لأناسِ يُضَيِّعُوُه في الملاهي والمنكرات كالتلفزيون والفيديو والسينماء والْمَذَايِيع وَالسَّفَرِ لِبِلادِ الْكُفْرِ. وَبَعْضُهُمْ يُنْفِقُونُهَا فِي دِرَاسَتِهِمْ عَلَى الْكَفَرَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، وَيَأْتُونَ بِشِهَادَاتٍ مِن الْكُفَّار يأكلون بها نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ مِمَّا ابْتُلُوا بِهِ.اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِن الْمُخَالَفَةِ وَالْعَِْصَيانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمنَا ومَا وَقَعَ مِنَّا ِمْن الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. آخر: اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وَقَوِي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِاليوم الآخرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَنَا وَأَكْفِنَا شَرَّ أَشْرَارَنَا واحْفَظنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا ونَعُوذُ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا وَنَسْأَلَكْ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.اللَّهُمَّ إِنَّ نَوَاصِينَا بِيَدِكَ وَأُمُورَنَا تَرْجِعُ إليك وَأَحْوَالُنَا لا تَخْفَى عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا، وَإليك نَرْفَعُ بَثَّنَا وَحُزْنَنَا وَشِكَايَتَنَا، يَا مَنْ يَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيتَنَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفَيْتَهُ وَاسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَهَبْ لَنَا مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ وَجُدْ عَلَيْنَا بِإِحْسَانِكَ الْعَمِيمِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
|